خاتمة لا يذكر تعبير «سيادة الدولة» أو إحدى مرادفاته الأخرى، إلا ومعه كلمة «الديمقراطية» حتى أصبح راسخا في الأذهان، أن تعبير«السيادة» يجب أن يكون ملازما لمفهوم «الديمقراطية»، التي خبرتها الشعوب المتمدنة حتى اليوم. إلا أنّ هذا المفهوم للديمقراطية، لم يكن واحدا، في كل زمان ومكان، الا من حيث الاسم فقط، الذي تنطوي تحته أشكال عديدة، وكل منها له خصائص سياسية وادارية، تعطي نتائج تختلف عن التي يعطيها شكل آخر. وقد راجت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، في «أوروبا الديمقراطية» والولايات المتحدة الاميركية، مصطلحات للديمقراطية متعددة، منها «الديمقراطية السياسية» و «الديمقراطية الفاسدة» و «الديمقراطية الاقتصادية» وغيرها. وغدا السياسيون في هذه الدول، خصوصا في لندن، يوجهون الانتقاد إلى أنظمتهم «الديمقراطية» ويلمحون إلى البحث عن «عقيدة»، أو عن «نظام جديد» تتبناه الدول الديمقراطية لتجاوز الأزمات التي واجهتها، ولا سيما، على الصعيد الاقتصادي، فشددوا على الانتقال من «الديمقراطية السياسية» إلى «الديمقراطية الاقتصادية» التي تؤمن لشعوبها الحق لكل عضو من أعضاء الدولة في مستوى معيشة لائقة معين، وتشغيل السواعد الكلي، أي القضاء على البطالة التي تفشت في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وهكذا وجدت «ديمقراطية» هذه الدول نفسها أمام اتجاهين أساسيين: حل المشاكل التي نشأت من تصادم ومصالح العمال والرأسماليين والعمل على تكوين عقيدة للمستقبل يحارب من أجلها الشعب، وذلك بعد أن ادرك سياسيو هذه الدول، أنهم يقاتلون بلا عقيدة تبعث الايمان وتشحذ الغرائم، ضد «أعداء» لهم عقيدة وعندهم الإيمان والعزيمة على القتال، في ظل أنظمة لا ديمقراطية، كما في المانيا، وايطاليا، والاتحاد السوفياتي. وهذا يطرح السؤال: هل الديمقراطية هي عقيدة، أم مجرد نظام سياسي؟ وهل الشعوب تناضل من أجل أنظمتها الديمقراطية، أم من أجل أهداف تتجاوز هذه الأنظمة؟
وتبقى «الديمقراطية» التقليدية مجرد نظام سياسي، مهما تعددت أشكالها وخصائصها، وبالتالي لن تتمكن أبدا، من التقدم نحو مرتبة السيادة التامة للشعوب، وتنظيم العلاقات السيادية في ما بينها، الا اذا تخلت عن سلطتها المتوحشة القائمة على «القوة المتغلبة» .
أن الانتصار الحقيقي للديمقراطية هو في تلازمها مع مبدأ القومية، و«الوجدان الانترنسيوني» الحي، وعلى هذا الأساس فقط، يمكن التفكير باقامة العدل الاجتماعي، والعدل الحقوقي داخل الأمم وبينها، مما يؤدي في النتيجة إلى انتصار مبدأ الخير العام للانسانية واقامة السلام الدولي الدائم، على أساس احترام حق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة.
ونختم بالقول: لا سيادة حقيقية بدون دولة قوية، ولا دولة حقوقية – قوية بدون أمة طبيعية، عصبيتها – روحيتها القومية، التي هدفها ومبرر وجودها هو الاقرار بأن السيادة مستمدة من الشعب في وحدته، وان الشعب لم يوجد للدولة، بل الدولة للشعب، وأن الشعب هو مصدر السلطات، وكلما اتسعت دائرة التمثيل الشعبي التعبيري، كلما ترسخت مبادئ الديمقراطية، هذا هو المبدأ الديمقراطي الذي تقوم عليه القومية، وفي الحتمية نقول: ان الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتما. بل ان القومية هي عقيدة الديمقراطية التعبيرية التي يمكن لها أن تبقى.
قال سقراط: ان إدارة الدولة مسألة تحتاج إلى أفكار أعظم العقول وأحسنها، اذ كيف يمكن انقاذ مجتمع أو جعله قويا، إلا إذا تولى أمر هذا المجتمع أحكم رجاله وأعقلهم؟ إنها دعوة إلى أعظم العقول وأحسنها في العالم، أن تثور على هذا الواقع الأليم الذي تحيا فيه البشرية، في ظل هذه الأنظمة المتوحشة، من أجل انقاذ الشعوب، وتولية أمرها لأحكم رجالها وأعقلهم.
إن الطريق نحو الدولة القومية الديمقراطية السيدة الحرة المستقلة الكريمة، هي طريق شاق طويل، الا أن كل أمة تتجه بطبيعة وجودها إلى إنشاء مثل هذه الدولة التي تضمن لها سيادتها وشخصيتها وحقوقها الانترنسيونية. ان هذه الدولة وحدها، هي النواة المثلى لتوطيد نظام دولي جديد قائم على أساس عقيدة كلية جامعة للمذاهب الانسانية الجديدة المتنافرة، تشمل جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وترتفع بهذه الحياة نحو مثل عليا غير متناهية.
ان النهضة القومية الاجتماعية التي وضع أسسها انطون سعادة، جعلت الأمة السورية، من جديد، في مقدمة الأمم الثقافية المتمدنة، التي تتمكن من خلال القواعد الاجتماعية والاقتصادية التي وضعتها ان تساعد غيرها وتعطي من تفكيرها. ان العقيدة القومية الاجتماعية، هي «العقيدة الانترنسيونية» الجديدة القادرة على تحقيق حلم البشرية في حياة سعيدة يسودها العدل والاخاء والمحبة والسلام الدائم.
واذا كانت المدينة – الدولة في سورية الطبيعية قد أرست فكرة الديمقراطية منذ ستة آلاف سنة، ومنها انتقلت إلى العالم بأسره، فإن أنطون سعاده قد أعطى الديمقراطية ومفهوم السيادة، بعدا جديدا ومنحى متقدما، تجلى في مقولته «التعبير عن الإرادة العامة». يقول سعادة:
«إن سورية القومية تضع أمام العالم اليوم فكرة» التعبير عن الإرادة العامة «بدلا من فكرة» تمثيل الارادة العامة «التي لم تعد تصلح للأعمال الأساسية لحياة جديدة.
إنّنا نشق في الحياة طريقا جديدا نختاره نحن لأنفسنا ونعتمد عليه في تفكيرنا الخاص، وسوف يكون هذا الطريق من جملة الانتاج الذي يأخذه الناس عنا. ان التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كله، والبشرية بأسرها تنتظر تفكيرا جديدا تنال به سعادتها وراحتها وحريتها، وهذه البضاعة الجديدة سيخرج اكثرها وأفضلها من سورية بلاد العبقرية والنبوغ.
أن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها» تمثيل «الإرادة العامة، وصار ينتظر انقلابا جديدا. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على» التعبير عن الإرادة العامة «بدلا من» تمثيل الإرادة العامة «الذي هو شكل ظاهري جامد. فالتفكير السوري القومي الجديد، هو ايجاد طريقة جديدة اسمها «التعبير عن إرادة الشعب» وقد يكون هذا التعبير بواسطة الفرد، أو بواسطة الجماعة حسبما يتفق أن يوجد.
فهذه الفكرة الجديدة، أي «التعبير عن إرادة الشعب» هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد. وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به دائما كما تريد الأمة.
أن الأمم كلها تريد الخير والفلاح. ولكن المشكل هو في ايجاد التعبير الصالح عن هذه الارادة. فالإرادة العامة إذ لم تجد «التعبير» الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب التمثيلية. فالتمثيل هو دائما أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الانشاء وأدراك شيء جديد.
هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث ان يصلحه، تفهم ارادة الشعب واعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة. سعاده: جريدة سورية الجديدة، العدد 67، تاريخ 25/5/1940
إنّ سيادة الدولة القومية، مستمدة أصلا من إرادة الشعب الحرّ الموحّد في نظرته إالى الحياة وقضاياها المصيرية الكبرى، وفي هذا المعنى: فنحن السوريين القوميين الاجتماعيين حركة ثورية صراعية نهضوية تقدمية، وجهة سيرنا في هذا الوجود، اختصرها سعاده بهذه العبارة الخالدة: إذا لم يكن ما نريد، فلن نرضى ما يكون، إلى أن يكون ما نريد. وما نريد هو حياة امتنا في العزّ والمجد والكرامة، ولا مردّ لارادتنا، لأننا بقوتنا نغير وجه التاريخ، ونصنع تاريخنا القومي الاجتماعي الجديد، ولا مردّ لإرادتنا لأنها هي هي القضاء والقدر