أن لبنان جزء من الوطن السوري. الذي يشمل سورية الطبيعية كلها، ما يعني حكماً أن الشعب الذي هو فيه جزء من المجتمع السوري والأمة السورية التامة بوحدة مثلها العليا المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي. يقول سعاده: «أن الدولة اللبنانية هي شخصية سياسية لاتقوم في قطر قائم بنفسه من الأرض، بالمعنى الجغرافي الطبيعي. ولا في شعب منفصل في وحدة حياته الاجتماعية. الاقتصادية والروحية التاريخية». (مراحل في المسألة اللبنانية صفحة 166)، وبذلك ينفي عن الكيان اللبناني المبررات الاقتصادية والاجتماعية. فلا يوجد شيء في التاريخ اسمه الامة اللبنانية أو الدولة اللبنانية، وهو استحدث بعد 1918 , والسؤال المطروح إذاً لماذ قام الكيان اللبناني؟
يجيب سعاده: الكيان اللبناني كيان اقتضته ضرورة قيام الدولة على اساس الدين أنه حل سياسي لمشكلة اجتماعية، لكنه حل لا يخلق جنساً جديداً. (مختارات في المسألة اللبنانية) ويضيف: «فالمسألة اللبنانية لم تكن قط أمة خاصة. أو جنس خاص أو بلاد خاصة، بل مسألة جماعة دينية، دفعتها الحروب الدينية الماضية، وفقد الحقوق المدنية السياسية العامة. إلى طلب وضع تامن فيه على معتقداتها الروحية وتقاليدها. وقد حقق لها الاجنبي ذلك بإعلان غورور دولة لبنان الكبير عام 1920».
يعترف سعاده ان الموارنة كانوا في اساس قيام الكيان اللبناني. كقوة سياسية. وان يينهم من يعمل على اعتماد الفينيقية. كخلفية فكرية لتبرير هذا الكيان. “فاعترفت الحركة السورية القومية الاجتماعية بالحدود اللبنانية تامينا للاهداف التي ارادها المسيحيون اللبنانيون، ورغبت في طمأنتهم. وبذلك أمكن التوفيق بين القضية السورية العامة والقضية اللبنانية الخاصة. بين القومية السورية، والكيان اللبناني. لكن في المقابل يشدد سعاده على أن فينقية كانت تعرف بانها سورية وليست لبنانية. وقد خصها بذلك الانجيل المقدس لدى وصف انتقال يسوع الناصري إلى الجليل ونواحي صيدا وصور. كما ان الموارنة هم من الشعب السوري. ويحملون تراثا سوريا وبطريركهم هو بطريريك انطاكية وسائر المشرق. فليس للبنان كرسيا بطريركيا، بل الكرسي سوري من هنا يبرز واضحاً إن سعاده يعطي لبنان خصوصية ذات بعدين، ضمن النظرة السورية القومية الاجتماعية.
كونه نطاق ضمان للفكر المطلق كونه ضمانا للحرية؟
وانطلاقاً مما نقدم نخلص إلى القول إن الكيان اللبناني هو كلمة فلسفية، أكثر منها كلمة سياسية. فكلمة كيان تعني ان هناك متحداً خاصاٍ للبنان تاريخي واواقعي. وهذا لم يكن موجوداً في لبنان في يوم من الايام.
لقد مر لبنان على المستوى التاريخي بثلاث تشكلات كبيرة ومعاصرة. جبل لبنان، ثم دولة لبنان الكبير، ثم لبنان بشكله الحالي وعندما نقول تشكل يعني اضافة وإنقاص عناصر بشرية. فهو عبر اولاُ عن ذاته بشكل الدولتين الدرزية والمارونية عندما قام في المرحلة الاولى، ثم ثانياٍ كملحق للدولة للفرنسية عند قيام الانتداب، واخيراً عندما أصبح عضوا في جامعة الدول العربية.
وعندما جاءت اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت المنطقة بين الاحتلالين البريطاني والفرنسي، كان نصيب لبنان وسورية انهما وقعا تحت الاحتلال الفرنسي. وبعكس بريطانيا التي ركزت اهتمامها على مصالحها الاقتصادية بالدرجة الاولى، وانشأت خظ التجارة مع الهند، والذي كان الهدف منه وضع اليد على منتوجات السوق العربية، والسيطرة على السوق السعودية. في المقابل فإن فرنسا ركزت في مشروعها على الاستعمار الثقافي بالدرجة الاولى، وسعت في مناطق سيطرتها إلى اقامة مؤسسات تربوية وبعض البرامج التنموية مثل المياه والكهرباء، وذلك بقصد إبقاء المواطنين في مناطق انتدابها يشعرون بفضل فرنسا عليهم.
عام 1920 أعلن الفرنسيون قيام دولة لبنان الكبير، فهل كان هذا الخيار هو الوحيد المتاح امامهم؟
قبل ذلك كان المسؤولون الفرنسيون يتأرجحون فيما يخص مستقبل لبنان وسوريا بين خيارين. اما بقاء المنطقة الواقعة تحت انتدابهم، موحدة في دولة سورية كبرى تسهل اداراتها، وتكون الاستثمارات فيها مربحة. مع امكان كسب رضا الوحدويين وولائهم، واما العمل على اعطاء الاقليات حقوقها وتحريرها من نير الاكثرية. التي عانت منه في العهود السابقة. والسماح لها بالحفاظ على خصوصيتها. في البدء رجحت كفة الخيار الاول. وهذا ما سعى إلى تحقيقه المفوض الفرنسي جورج بيكو طيلة العام 1919، ومعه رئيس الوزراء كليمنصو الذي راهن بعد اسثتناء لبنان من الوحدة السورية على الامير فيصل لنجاح هذا الخيار. فعقد معه اتفاقا في 6 كانون اول 1920، وبعد ان فشل فيصل في تطبيق شروط الاتفاق، وانجراره وراء التيار الذي رفض الاتفاق، ما ادى إلى معركة ميسلون. قرر الفرنسيون الانتقال إلى الخيار الثاني، والمتمثل بدويلات الاقليات، وإلى الاعتماد على لبنان الكبير ليكون بوابة حضورهم في الشرق.
إذاً يمكن الاستتناج انه لولا هزيمة ميسلون، لما كان هناك لبنان الكبير. لقد غيرت معركة ميسلون الواقع القائم كليا. بحيث اصبحت فرنسا سيدة الموقف، بعد ان تنحت بريطانيا ولو مؤقتاً تاركة لها حرية تنظيم المنطقة التي اوكل مؤتمر سان ريمو اليها ادارتها، حيث اعتبر دعاة لبنان الكبير بعدها ان قضيتهم اصبحت سهلة المنال.
أن معاهدة سايكس بيكو مسؤولة عن تجزئة الامة إلى كيانات جغرافية، ولقد كان لبنان بفعل هذه المعاهدة أحد الكيانات التي سمي وطناً فتم الانفصال كما في غيره من الكيانات بين مفهوم الامة ومفهوم الوطن فضاعت الهوية الحقيقية للشعب. فلبنان الكيان هو في الوقت نفسه لبنان الكيانات، فإسرائيل كدولة لا يمكن لها ان تبقى الا اذا عممت نموذجها، لذلك وضعت كل قوتها بدعم من الولايات المتحدة لانشاء دويلات طائفية في المنطقة المجاورة لها.
لقد حاول البعض منذعام 1943 صياغة واقع لبنان ومستقبله حول مفهومين متحركين هما الكيان والنظام، وذلك حسب اتجاه يدفع بالفئة المتسلطة لاخضاع النظام أو لتطويعه بشكل يخدم مصالحها هي بالذات. فيصبح هذا النظام تعبيراً متزيداً عن الجموح والاجحاف إلى درجة تصبح فيه الهوة بين المستغل والمُستغل انشقاقا لا يلتحم، وهذه المسألة تعدت حدود النظام لتطال جوهره بحيث اصبح كل اهتزاز لمصالح المتحكمين هو اهتزاز للمشهد السياسي برمته مما انتج وضعية اجتماعية تسير على رمال متحركة جعلت لبنان يعيش في اضطراب دائم.