العقل عموما وعند سعاده خصوصاً

 الحلقة الأولى

  لا يترك القوميون مناسبة ألا ويكررون قول سعادة: «العقل في الإنسان هو الشرع الأعلى والأساسي.» والواقع أنه ربما غاب عن بال كثيرين منهم أن العقل ليس نمطاً واحداً، خاصة المنهج العقلي. ومن هنا ينبثق سؤالان بديهيان: الأول: لماذا العقل ليس واحداً، وما هي أنماطه؟ السؤال الثاني: ما هو العقل الذي تكلم عنه سعادة أو الذي استخدمه؟ وهل انفرد سعاده بمنهج، أو ميزة، أو معنى أو مفهوم جديد عمن سبقوه، أو أنه استخدم عقلا محددا يمكننا تحديد ملامحه العامة؟ قد يستغرب كثيرون إذا قلنا إن العقل أنماط، ولا يمكن فهمه ألا من خلال تاريخه أو بالأحرى تطور النقاش العقلي وأحيانا الاشتباك الفكري بين المفكرين والفلاسفة الذين تناولوا هذا الموضوع.

  المهم أن الأمين حيدر حاج إسماعيل ومن خلال درجته الأكاديمية كمتخصص في مجال الفلسفة، ونتاجه الغني خاصة في الترجمة ومعظمها من الكتب ذات الطابع العلمي والفلسفي، فإنه قد خصص كتابا لهذا الشأن بعنوان: «العقل عموما وعند سعاده خصوصا.» وبهذا يفتح مجالين، أولا لرصد النقاش الذي تم خوضه والتطور الفكري للمنهج العلمي للوصول إلى الحقيقة. وثانيا محاولة استخلاص السمات العامة المميزة للعقل التي استخدمها سعاده.

 يبدأ الدكتور حيدر بعرض المسار العقلي قبل سعادة، فيحدد المحطات التالية، وهي بالأحرى اتجاهات:

1.       الاتجاه الأول وهو العقل العلمي: المنهج العلمي، العقل العلمي ومنهج الاستقراء، والتفكير الموضوعي. مبدأ العليّة، والسببية. مبدأ الاستقراء. 

    ومن الذين انتقدوا المنهج العلمي أصحاب المنهج التجريبي وعلى رأسهم ديفيد هيوم. وهم أصحاب مبدأ أن الحواس سبيل المعرفة. فقد شكك هيوم بالتفكير الموضوعي والعقل العلمي، في هذا الأساس انقض هيوم على مبدأ السببية واعتبر أنه مبدأ فاسد وأن المنطق يعجز عن برهانها. واعتبر انه إذا كان الاستقراء أساس المنهج العلمي فهو يفيد أن الظواهر التي لم نختبرها بعد يجب أن تشابه الظواهر التي اختبرناها.

   والواقع فقد جرت محاولات لإنقاذ مبدأ السببية والمنهج العلمي: محاولة الفيلسوف الألماني كانت فاعتبر أن مبدأ السببية ليس موجوداً في الواقع الحسي إنما في العقل النظري pure reason. وبرأيه فالعلم لم يعد خلقا جديدا عن معرفة الواقع (الأشياء في ذاتها) بل صار معرفة لظواهر الأشياء بعد تنظيمها بمقولات العقل العلمي ليس استقرائيا موجودا في الواقع الحسي، إنما هو في العقل النظري. أما المحاولة الثانية فقد تمت على يد ويل الذي اعتبر أن الحد بين الماضي والمستقبل ليس ثابتا، بل هو متحرك دائما وكل يوم ينقضي، يحمل معه اثباتاً لقوانين العلوم. 

   لقد كانتا محاولتين مخيبتين للآمال. عبّر عن هذه الخيبة اثنان: بلاك وراخينباخ. فالفيلسوف ماكس بلاك الذي يئس من إمكانية البرهان الواضح والثابت على صحة أساس العلم (مبدأ السببية أو نظام الطبيعة)، فرأى أن تصنف «مشكلة الاستقراء» العلمية في عداد المشكلات العاصية على الحل مثل تربيع الدائرة واختراع آلات دائمة الحركة.

   أما الفيلسوف الثاني رايخنباخ الذي توصف فلسفته العلمية بالعملاتية operationism، فقد رأى أنّ العلم، بخاصة الفيزياء، لا يجوز وصف معارفه بأنّها صادقة true أو كاذبة false، ذلك لأن العلم يقوم على مبادئ وإنشاءات مثالية (فكرية) تفرض على الطبيعة لهدف السيطرة عليها، تماماً مثلما ننشئ شبكة من الاحداثيات ونفرضها على الكرة الأرضية لهدف توجيه أنفسنا عليها.

  واستمر النقد مع: كارل بوبر وماكس فيبر.

        أقر بوبر بضآلة المعرفة الإنسانية. رفض الاستقراء مبدأً أو منهجاً. طبق مبدأ الديالكتيك الثلاثي في البحوث العلمية.. فالنظرية التي يمكن كشف زيفها أو تكذيبها بواسطة الخبرة، أدل أو تستبدل بكل بساطة.  يضع بوبر منهجا جديدا يسميه منهج الفحص الاستدلالي تسويغ الاستدلال الاستقرائي: ومفاده أن الفرضية يمكن فحصها فقط بعد وضعها. ويقول بوبر انه مهما كانت الحالات التي نلاحظ فيها اوزا ابيض فان ذلك كله لا يسوغ أن الأوز جميعه أبيض.

        أما فيبر فيشير إلى عجز العلم عن تقديم تفسير للعالم، والسؤال ما معنى العالم؟ وما الطريق إلى الله؟ لا إجابة عليهما في العلم. أيضا كل العمل العلمي يفترض أن قواعد المنطق والمنهج صحيحة. ويفترض أن نتائج العلم مهمة بمعنى أنها تستحق المعرفة فهي ذات قيمة، علماً بأن هذا الافتراض لا يمكن إثباته بوسائل العلم. جلّ ما نستطيع عمله تفسيري، أي أننا نفسر الافتراض بإسناده إلى معناه الأخير الذي قد نقبله أو نرفضه وفقاً لموقفنا النهائي نحو الحياة. على سبيل المثال.

        فايرابند: كان مناقضا لبوبر ولاكاتوس في لندن.  وضع كتابا في عام 1975 بعنوان «ضد المنهج: مخطط تمهيدي لنظرية فوضوية في المعرفة». اعتبر أن العقل العلمي ذاتي فلا موضوعية ولا واقعية. هذا الاتجاه عرف باسم الواقعية العلمية. والذي يقوم على مبدأ وجود حقائق خارجية references موضوعية تشكل المرجعية الثابتة لمقارنة النظريات. في كتابه ضد المنهج اعتبر أن غاليليو مثلا جاء بنظرة علمية جديدة إلى الكون تختلف كل الاختلاف عن النظرة الارسطالية فلا يجوز المقارنة بينها.

        تشايلمرد: العلم مشاد على الوقائع.

الخلاصة: أساس العلم ليس أساسا ثابتا لان مبدأه الإرادة الإنسانية وقرار الإرادة الإنسانية قرارات بعدد الفلاسفة. ما كانت الإرادة والمصلحة متلازمتين إذا أساس العلم هو المصلحة الإنسانية واما وقد فقد العلم أساسه الثابت في الطبيعة فقد صار تابعا لقرارات الإرادة الإنسانية ومصالحها فهو صار مثل كل أيديولوجيا تصدر ن الإرادات نول من الأيديولوجيا.

  بعدها ينتقل الكاتب إلى الراديكاليين ومن أعلامهم: تشالمرز وهانسون وهبنر.

        هانسون: يؤكد أن الاختبارات البصرية التي تحصل للأفراد وقت الرؤية لا تتحدد بصورة الأشياء على شبكيات عيونهم فقط، فهي تمدد أيضا على الاختبارات السابقة والمعرفة السابقة وثقافة وتوقعات المشاهد، وهذا كله يفرض مبدأ الفهم قبل القراءة.

2.       اما الاتجاه الثاني فهو العقل الجمعي. وأصحابه المفكرون الاجتماعيون. من أعلامه دوركايم وها برماس.

        دوركهايهم: العقل الجمعي يرى دوركهايم أن الناس يؤلفون أفكاراً ذات تصورات قبلية عن الأشياء، يمكن أن تصبح بديلاً للاشيء ذاته. وهذه الأفكار أو التصورات القبلية يمكن أن تصير موضوعا لعلم خاص بها. الأفكار الأيديولوجية هي في تعريفه أوهام. illusions وبحسب دوركهايم تحرف الناحية الواقعية للأشياء وتنتج ما يسميه عالما خياليا. لا شك ان دوركهايم هو الذي ابتدأ بتحليل الثقافة من منظور علم الاجتماع بخاصة توكيده على ما اسماه الضمير الجمعي.

        هاب رماس: العقل اللغوي. كان هيب رماس يرى أن مشروع تحرير المجتمع مستحيل تحقيقه دون عقلانية عصر التنوير في فضاء السياسة والحياة اليومية وتحديدا بالعقلنة اللغوية. ولطالما اعتبر هي برماس ان اللغة الإنسانية تشمل عددا من الادعاءات بالصحة validity claims هي مضمرة في كلام المتكلمين.

        النظرية النقدية العقل الذرائعي: ثم يعرض للنظرية النقدية ومن إعلامها ادورنو وهورخايمر في نقدهم للعقل والأخلاق وفي كتابهما كشفا الغطاء عن عصر التنوير الذي وعد بتحرير الإنسان بواسطة العقل الموضوعي لكنه انتهى إلى استبعاده بالعقل(الذاتي) الذرائعي

ثم يعرض لآراء أخر مثل فتجن شتاين، والذي دافع عن فكرة انه دون معايير عامة ومعايير مشتركة للجماعة معايير تؤلف صورة حياة ، فان اللغة وحتى الفكر يصبحان مستحيلان.  اعتبرت بتنام Putman أن التفوق الأداتي المتعالي لما نعتبره علما قد يكون أضحوكة أو حيلة مخادعة.

        فايرابند يرى أن التصور العلمي التكنولوجي الحديث للعقلنة هو خدعة. وكان يرفض أي فكرة للمطابقة congruence في المعرفة العلمية.

        اعتبر نيتشه ان العلم يشارك في قضية جوهرية ألا وهي الاعتقاد بوجود الصدق، أو الحقيقةtruth   والمبالغة فيه.

.  ولا بد من الإشارة أيضا إلى بافلوف وفرويد في نزعة العداء المعاصرة للعقل العلمي بين الذاتي والموضوعي

3.       الاتجاه الثالث: العقل والنص.

        عادل الضاهر في كتابه اسبقية «العقل»: يقر بمبدأ اسبقية العقل على النص. ويشير الكاتب إلى ان ضاهر ربما حصر النص بالنص الديني وبقيت كلمة العقل كلمة بغير تعريف، وأشار إلى مأزق تعريف العقل بذاته أو بصفاته وهذه مشكلة ال tautology، ويشير إلى ان ضاهر يتحدث عن عقل نظري مختص بالاعتقادات وعقل عملي وظيفته البت في الغايات. والعقلان تفسيريان. وهذه نظرية هارمان. gilbert Harman أما وظيفة العقل العامة سواء اكان نظرياً ام عملياً، فيصفها الضاهر بإعطاء أسباب المبادئ الأساسية للمنطق هي المبادئ النهائية للعقلانية.

•        الجابري والعقل الثقافي التراثي الجابري: في كلامه عن العقل العربي يعتبر الجابري ان التدوين هو الذي صنع العقل العربي. يقول الجابري في «تكوين العقل العربي»: لا يمكن تبني التراث ككل لأنه ينتمي للماضي، ولأن العناصر المقومة للماضي لا توجد كلها في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر، وبالمثل لا يمكن رفض التراث ككل للسبب نفسه، فهو -شئنا أم كرهنا- مقوم أساسي من مقومات الحاضر، وتغيير الحاضر لا يعني البداية من الصفر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *