ما هي الأسس التي يقوم عليها مشروع سعاده؟ بعض هذه الأسس نلخصها بما يلي: أولاً، القومية والوحدة الطبيعية للأمة السورية:
أسس أنطون سعاده مشروعه النهضوي على مبدأ الوحدة القومية، مشدَّدَا على أن الأمة السورية هي وحدة طبيعية قائمة بذاتها، وأن هذه الوحدة هي الركيزة الأساسية لأي نهضة حقيقية. ورأى أن الأمة لا يمكن أن تتجسد بشكل كامل إلا من خلال إدراكها لذاتها كوحدة متكاملة، تجمع بين الأرض والشعب في علاقة حيوية، تفاعلية، لا تقبل التجزئة. وقد أكد أن الوعي بالشخصية القومية هو ما يُعبر عنه بـ «القومية»، وهي إدراك الأمة لوحدة حياتها وشخصيتها وخصائصها المميزة، مما يخلق شعوراً جماعياً يوحدها أمام التحديات. [1] هذا الوعي لا يقتصر على إدراك الذات فحسب، بل يتطلب مواجهة التعاريف المبلبلة التي جزأت حقيقتنا القومية وساهمت بتشتتها وضياعها. لذا، فإن التأكيد على الهوية السورية الجامعة والاعتراف بأن السوريين أمة كاملة يشكل أساسًا ضروريًا للقضاء على الفوضى والبلبلة، ويضع العمل القومي على أسس واضحة، مما يجعل النهضة القومية في سوريا ممكنة.
وأشار سعاده إلى أن القومية ليست مجرد شعور بالانتماء، بل هي «الروحية الواحدة» التي تنبثق من الاشتراك في الحياة الواحدة عبر الزمن[2] ، وهي رابطة الأمة وعصبيتها. ويقول: «ليست القومية إلا ثقة القوم بأنفسهم واعتماد الأمة على نفسها.»[3] إلى هذه القومية الموحِّدة دعا سعاده أبناء شعبه للاتحاد والدفاع عن مصالح حياتهم القومية والوطنية. في خطاب له في صافيتا عام 1936 توجه إلى القوميين الاجتماعيين قائلاً: «إني قد دعوتكم إلى القومية لنتحد ونصبح قوة فعالة فلبيتم الدعوة، وها نحن قد أصبحنا هذه القوة التي تخشاها الرجعية من الداخل وترهبها القوات الطامعة من الخارج.»[4] وأضاف: «إنّ نهضتنا القومية هي الوسيلة الوحيدة لتأمين حقوقنا وصيانة مصالـحنا. وإنّ الوقت قد حان لإسماع العالم صوت نهضتنا وللدفاع عن حقوقنا ومصالحنا. وإنّ أول حق من حقوقنا هو حق سيادتنا القومية. وإنّ أول مصلحة من مصالحنا هي صيانة كل شبر من هذه الأرض المقدسة التي عليها نحيا ومنها نستمد موارد الحياة.»[5]
اعتبر سعاده ان انعدام الوعي القومي لحقيقة الأمة السورية ولوحدة حياتها ومصيرها قد «أفقدنا معظم مواد أرضنا الأولية الهامّة»[6] وأدى إلى فقدان سيادتنا القومية على أرضنا وقيام الدولة اليهودية في جنوب سورية. إن خلاص الأمة لا يكون إلا في وعيها الاجتماعي وفي اعتبار قضيتها «قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.»[7] وهذه القضية «يجيء تـحقيقها من الأمة السورية ويكون بإرادة الأمة السورية وفاقاً لـمصالحها، لا بإرادة أمة أو أمـم أخرى وفاقاً لـمصلحة تلك الأمة أو الأمـم.»[8] إن الوعي القومي السليم يتطلب الاعتراف الكامل بأن سورية للسوريين والسوريون يشكلون أمة تامة وبأنه لا يجور لأحد ولا لأية شخصية أو هيئة غير سورية أن تقرر مصيرهم، وأن أي محاولة لتجزئة الوطن أو تفكيك الانتماء القومي إنما تهدد مستقبل الأمة. يقول سعاده: «لا يمكن سورية أن تتقدم إلا بقضية سورية قومية ولا خلاص للأمة السورية من الفوضى، التي هي أشد خطراً على حياتها من اليهود والتي لم يتفاقم الخطر اليهودي إلا بفضلها، إلا بامتداد الوعي السوري القومي وباهتمام الشعب السوري بنهضته القومية الاجتماعية التي تجعل مصيره في يده .»[9] لذلك فإن محاربة الفوضى والبلبلة الفكرية تبدأ بتعزيز الهوية القومية الجامعة، وتجاوز الولاءات الضيقة والانقسامات السياسية والطائفية التي تُعيق نهضة المجتمع. ومن هنا، دعوته إلى إيقاظ الوعي القومي الذي «يوضح حقيقة المجتمع وينقذه من تخبطاته»[10] ومشاكله الروحية والنفسية ويُوحّد الشعب في «إيمان واحد ويقين واحد وثقة بالنفس كبيرة لتحقيق أهداف حياته.»[11]
ثانياً، الوجدان القومي:
الحركة القومية الاجتماعي التي أسسها سعاده ليست حركة تحرر تقليدية، بل هي حركة «نهوض قومي اجتماعي وحلّ المشاكل النفسية والاجتماعية والسياسية التي تمنع الأمة من السير إلى عزها وخيرها.»[12] إنها حركة تجديدية ونهضة شاملة تعود بالأمة إلى محور نفسيتها الأصلية، نفسية الخلق والإبداع، وتعيد لها حضورها الفاعل في التاريخ الإنساني عبر توحيد أبنائها بعقيدة قومية اجتماعية مناقبية تهدف إلى بناء مجتمع متين ومتماسك يقوم على التعاون والإنتاج والعلم والتحرر من قيود التخلف والتبعية.
العقيدة القومية الاجتماعية تُشكّلُ فلسفة كاملة أو نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن تشمل جميع جوانب الوجود المجتمعي وتنطلق من وعي الفرد بأن حياته ومصالحه مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحياة الأمة ومصالحها. هذه الفلسفة تنظر إلى الفرد من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى ـ حقيقة المجتمع، وترى أنه جزء من المتحد القومي أو الأمة، حيث يسعى دائمًا للعمل من أجل رفعتها وتقدمها.
ما يدفع الفرد للعمل من أجل رفعة الأمة وتقدمها، هو قوة روحية محرّكة يُعرِّفها سعاده بالوجدان القومي، وهو نوع من الشعور العميق يتولّد في نفس الإنسان ويعمل كمحرّك أساسي لتوجيهه نحو التضحية والبذل من أجل الأمة. فهو يتطلب من الفرد أن يتجاوز حدود ذاته ليشعر بشخصية مجتمعه وأمته، وأن يجمع بين إحساسه بحاجاته الخاصة وإحساسه بحاجات الأمة، ليتحد بها في مصير واحد. يقول سعاده: يجب على الفرد «أن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتم به ويود خيره، كما يود الخير لنفسه.»[13]
مشروع أنطون سعاده النهضوي، إذن، يرتكز على أساس «الوجدان القومي»، الذي يشكل القوة الروحية المُحرِّكة للفرد والجماعة نحو التغيير وتحقيق نهضة شاملة ومتجانسة. ومن خلال الوجدان القومي، يدرك الفرد أن حريته وكرامته مرتبطة بتحرر أمته واستقلالها. ولهذا، يصبح هدفه الأسمى تحقيق استقلال الأمة ونهضتها، والعمل على بناء مجتمع قومي حرّ ومنتج وقادر على مواجهة التحديات بكل أنواعها. يقول سعاده في إحدى رسائله إلى أدفييك جريديني:
كلنا يجب أن نكون سورية، لأنه قد جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئًا في سبيل حريتنا فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة. يجب أن نصبح أمة حرة لكي يصبح الحب السوري حبّ احرار لا حبَّ عبيد، والحرُّ لا يمكنه أن ينعم بحبه في العبودية.[14]
من هنا، يمكن القول ان أنطون سعاده جاء بنظرة فلسفية متكاملة تهدف إلى إعادة بناء الإنسان النهضوي الواعي، على أساس الوجدان القومي، ليصبح فاعلاً في مجتمعه، محركاً لنهضته، ومعبراً عن الروح القومية التي تتجاوز كل مظاهر التشتت والضعف. والحق يقال، أن سعاده نجح بإيقاظ الوجدان القومي في فئات كبيرة من الشعب كانت تنتمي إلى طوائف متعددة في البلاد، فجعل منها كياناً قومياً واحدا يتكلمون بلسان واحد ومعبّرين عن حقيقة واحدة هي حقيقةُ الأمة وغايتها العظمى.. أن ما يجمع هؤلاء في المصلحة العامة هي وحدة الروح المتينة – هذه القوة الروحية العظيمة المتولّدة من المبادئ الجديدة التي شقّت طريقها لتعبِّر عن حقيقة الأمة الحيّة ومراميها.. وسعادة يؤكد «أنّ عظمة الحزب السوري القومي التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي وإظهار شخصية أمة عظيمة كانت مهملة وإيجاد أسس نهضة تحقق وصول الأمة إلى مرتبة الحياة المثلى اللائقة.»[15]
الواجب القومي يحتّل مكانة مركزية في فكر سعاده، فهو يمثل قيمة عليا ودعامة أساسية في بنيان الدولة القومية الاجتماعية.[16] بفعل الوجدان القومي، يلبي القوميون الاجتماعيون نداء الواحب القومي، ينذرون نفوسهم للقضية القومية التي تساوي وجودهم، يهتمون بمصلحة الأمة وخيرها ويندفعون للدفاع عن سيادتها وحقها في الوجود فيقاومون الاحتلال الأجنبي والصهيوني ويعتبرون التضحية في سبيل الوطن أمراً جوهرياً للحفاظ على وجود الأمة وهويتها، وهو ما عبّر عنه سعاده بقوله إن «الحياة كلها وقفة عز فقط.»[17]
إن مشروع أنطون سعاده النهضوي هو مشروع متكامل يتأسس على الوجدان القومي الذي يقوي الارتباط الاجتماعي والإخاء القومي ويدفع الأفراد إلى العمل والتضحية في سبيل الأمة. هذا المشروع ليس مجرد دعوة للتحرر من الاحتلال أو النفوذ الخارجي، بل هو دعوة لتحرير العقل وبناء مجتمع قومي حرّ ومستقل، يستطيع الوقوف بثقة أمام تحديات العصر من خلال قوة الروح وإرادة العمل الجاد.
إن الالتزام بالواجب، والإيمان بالروحية القومية، يعتبران دعائم أساسية لمشروع النهضة القومية الذي قدّمه سعاده، والذي لا يزال حتى اليوم نموذجاً للتفاني في سبيل الوطن والانتماء الحقيقي إلى الأمة.
[1] أنطون سعاده، نشوء الأمم، ص 167.
[2] المرجع ذاته.
[3] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 33.
[4] أنطون سعاده، المجلد الثاني 1935-1937، خطاب الزعيم في صافيتا 17/12/1936 (الرجعية تحارب حربها الأخيرة).
[5] المرجع ذاته.
[6] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، نداء الزعيم إلى منتجي ثروة الأمة وبنّائي مجدها.
[7] المبدأ الأساسي الثاني من مبادئ الحزب.
[8] أنطون سعاده، الأعمال المصنفة، القومية الاجتماعية، خطاب الزعيم في أول مارس 1938.
[9] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، «خلاص الأمة في وعيها الاجتماعي.»
[10] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، ص 422.
[11] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 6 خطاب الزعيم في طلبة دمشق 5/11/1948.
[12] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، المبادئ القومية الاجتماعية وحدها طريق الإنقاذ.
[13] أنطون سعاده، نشوء الأمم، ص 14.
[14] المرجع ذاته، رسالة 17، ص 139.
[15] أنطون سعاده، الأعمال المصنفة، القومية الاجتماعية، «النظام»، الـزوبعة، بوينُس آيرس، العدد 40، 1942/3/1.
[16] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، ص 28.
[17] ملحق رقم 2 خطاب الزعيم في بشامون، 03/10/1948.