سيادة الدولة القومية وتداعياتها – الحلقة الرابعة

سيادة الدولة القومية وتداعياتها – الحلقة الرابعة

أصل كلمة السيادة ومفهومها

الأصلية (Pouvoir politique origin Aire) التي تستمد عنها، شرعية مبدئها وقوة نفاذها، سائر السلطات القائمة في الدولة.

تتميّز السيادة، بدرجتها القصوى، أي السلطان، وهي صفة قانونية، على حد ما وصفها كاره دي مالبرغ:»السلطان الذي لا يقرّ بسلطان أعلى منه او مساو له»، وهذا التعريف ورد في كتاب مالبرغ» المساهمة في نظرية الدولة» الذي يحتوي عرضا لأكثر التحديدات المعروفة للسيادة.

 ومصطلح» السلطان» الوارد في تعريف مالبرغ، استخدمه المسلمون يقول د. ادمون رباط: ان كلمة السيادة تبدو حديثة العهد، ودخلت الى لغة القانون والسياسة، للتعبير عن صفة الاستقلال، التي تختص بها الدول المعاصرة، وعن المصدر الديمقراطي، أي السيادة، التي يستمد الحكم منها وجوده وشرعيته في هذه الدول، وذلك ترجمة لكلمة Souverains’ المستعملة، أيضا، في معظم اللغات الأجنبية. وهي مشتقة من كلمة لاتينية، كانت شائعة في القرون الوسطى، وهي: Superanus بمعنى الأسمى، أي السلطة العليا.

  مع الملاحظة أن هذه التعابير ارتبطت بمفهوم السيادة المجسدة للارادة الالهية، وليس للإرادة الشعبية. وعلى سبيل المثال فقد جاء في سورة الملك الآية: «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير».

ويقول ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع الحديث: 

 «.. وانما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية، ويجبي الأموال، ويبعث المبعوث، ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده يد قاهر. وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور… فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم، فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان».

 الفقه الحديث والسيادة يعود الفضل في ابتكار فكرة سيادة الدولة الى فقهاء العصر الوسيط، ويذكر منهم على سبيل المثال بوما نوار (Beaumanoir) ولوازو (Loyseau). الا أن هناك شبه اجماع بين علماء الفقه الحديث على أن نظرية السيادة تعود في اصولها الى جان بودان(J. Bodin 1596-1530)، وهو أول من أوضح معنى كلمة السيادة في كتابه عن «الجمهورية»، عندما قال : «إن الدولة انّما هي حق الحكم على الأسر فيها، وحق ادارة شؤونها المشتركة بينها، وذلك على أساس السلطان السيد…، بودان اعتبر انها» سلطة الأمر والنهي دون أن تكون مأمورة ومكرهة من أي كان على الأرض«كما اعتبر أن» الجمهورية ( الدولة ) لا تبقى جمهورية دون قوة سيدة توحد جميع أعضائها في هيئة واحدة.

ويوافق معظم الفقهاء الذين كتبوا في معنى السيادة، ما ذهب اليه بودان، أمثال غروسيوس وفاتيل وجلينك ودمالبرغ وايسمان.

يستنتج، د. ادمون رباط، من تعريف ايسمان لمصطلح السيادة، بأن هذا التعريف يتضمن صفتين جوهريتين للسيادة، هما:

 سيادة أصلية في مبدئها    pouvoir originaire

 سيادة سامية في قوتها  Pouvoir suprême

باعتبار ان السيادة لا تستمد أصلا الا من نفسها، ولا تقر بسيادة تعلو عليها وهو التحديد للسيادة بوجهيها الداخلي والخارجي، الذي كادت تتفق الآراء العلمية عليه. وهذا ما يفسر وحدانية السيادة، وعدم امكانية تقسيمها الى سيادة داخلية وأخرى خارجية. انّ السيادة كباقي القيم غير خاضعة للمقاييس المادية، وهي بالتالي وحدة تامة غير قابلة للتجزئة، تماما كما الحرية والحق والخير والجمال وغيرها من القيم، وفي هذا الإطار يقول كاره دي مالبرغ «… ان السيادة الخارجية هي التعبير للسيادة الداخلية في الدولة، كما أن السيادة الخارجية غير ممكنة بدون السيادة الخارجية، لان الدولة، إذا كانت مرتبطة بشيء من التبعية ازاء دولة أجنبية، فلا تكون متمتعة بسلطان سيدة في الداخل».

إذا، ففي وحدانية السيادة، الدليل على أن السيادة داخل الدولة انما هي الاساس للسيادة مع خارجها.

 كل دولة، مهما ارتقى فيها مستوى التعبير عن سيادتها، فهي في الداخل تحتاج الى دستور يسودها، وهو ما يعبر عنه في الفقه الدستوري «الدولة القانونية»، وهي في الخارج، عليها ان تخضع لأحكام القانون الدولي، الذي يقرّ بسيادة الدول واستقلالها وحريتها ومساواتها ولو نظريا. وعلى الصعيد الحضاري ـ القيمي تلتزم الدول صاحبة السيادة بمبادئ الدين والأخلاق والمثل والتي تقدسّها الحضارة التي هي نتاج تفاعل الفكر الانساني، الرافض والمقاوم لنظريات الصدام الحضاري، ومن هنا انبثقت «النظرية القانونية للحريات العامة والحقوق الشخصية» في شرعة حقوق الانسان العالمية.

 تدويل االسيادة:

 لا مشاحة في ان فكرة السيادة القومية، في ظل الدولة القومية، قد اكتسبت مركزا ممتازا في السياسة الحديثة، وغدت شعارا للكرامة الوطنية وأفضل تجسيد لمعاني السلطة العليا والحرية والاستقلال.

إلا أن المفهوم العام للسيادة، أخضع بعد التطورات الدراماتيكية، التي شهدها العالم إثر الحرب العالمية الثانية، الى تقليص دور السيادة الوطنية على حساب ما وصف بالعمل الجماعي في نطاق العلاقات الدولية المتبادلة، حيث أصبح لممارسة حقوق الدولة في سيادتها شروطا من وجهة المساءلة الدولية، وهكذا دخلت نظرية السيادة القومية في قاموس السياسة الدولية، في نطاق التدويل، وذلك بصرف النظر عن منظومة «القيم» التي تدور في فلكها.

لقد ادخل «ميثاق الأمم المتحدة» السيادة القومية في دائرة التدويل، من خلال الاهداف التي نصت عليها المادة الأولى منه، كما يأتي:

1 ـ المحافظة على السلام الدولي، باتخاذ اجراءات جماعية للحيلولة دون اي شيء يهدد السلام، ولقمع أي عدوان، ولفض اي نزاع قد يؤدي الى تهديد السلام.

2 ـ تنمية العلاقات الطيبة بين الشعوب على أساس احترام مبدأ المساواة، وحق تقرير المصير للشعوب.

3 ـ التعاون بين الشعوب من أجل حل المشكلات الدولية، أكانت اجتماعية، أم اقتصادية، أم ثقافية، أم انسانية..

لقد فرضت الأزمات المتفجرة التي عصفت بالعالم، بعد قيام «منظمة الأمم المتحدة» عام 1945 نمطا جديدا في الاحتياجات السياسية الدولية، خصوصا على صعيد حماية «السلام الدولي» من التهديدات التي تحدث داخل الدول أو فيما بينها، وتمتد تداعياتها السلبية الى جسم «المجتمع الدولي». ولمواجهة هذه الأخطار كان «مجلس الأمن» الذي تحدّدت مهمته «بصون السلام والأمن الدوليين.. وله وحده حق الفصل في المنازعات الدولية..»، وقد وافقت جميع الدول الأعضاء أن تضع تحت تصرفه أية قوات مسلحة أو تسهيلات عسكرية يطلبها أو يتفق عليها.

ولكن، الى أي حد احترمت « الدول العظمى » مهمة مجلس الأمن الذي « له وحد حق الفصل في المنازعات الدولية »؟

لقد ضربت بعض « الدول العظمى» وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية عرض الحائط بهذه القاعدة، ولجأت، بصفتها الدولة الأقوى ماديا وعسكريا في العالم، على خرق سيادتها الذاتية، وسيادة الدول الأخرى.

كتبت الباحثة المصرية في العلوم الاجتماعية والاعلام ليلى حلاوة تحت عنوان «تدويل السيادة » ما يأتي: « واشتملت عملية تدويل السيادة على توسيع لأبعادها الخارجية فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الدولي وهي الاعتراف المتبادل بين دول لها سيادة اتسعت بصورة معينة أدت الى وضع شروط لممارسة الدولة حقوق السيادة، أهمها ألا يتسبب من جراء تلك الحقوق احداث اضطراب في النظام العالمي ….»

ويعتبر وضع كوسوفو وتيمور الشرقية تحت السلطة الكاملة لادارة دولية انتقالية بتكليف من الأمم المتحدة من أكبر العلامات وضوحا على وجود صورة للسيادة الدولية، لذلك فان شرط الاعتراف بسلطة الدولة العليا لم يعد يرجع فقط الى الشعب، ولكن الى حقيقة ان الدولة ليست عنصرا للفوضى والاضطراب في المجتمع الدولي.

ويعني مفهوم تدويل السيادة وجود نظام لمساءلة الدول في حالة تعسفها الشديد في ممارسة حقوق السيادة. وقد تاكد هذا الشرط الجديد لسيادة الدولة عندما صرح السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي أنان أنه لم يعد هناك حصانة للسيادة.

ومن جهة أخرى نجد أن كوفي أنان في المشروع الذي طرحه على الجمعية العامة في دورتها (54) يعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة، ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فهو يدعو الى حماية الوجود الانساني للأفراد وليس حماية الذين ينتهكونها. وبهذا الطريق يكون أنان قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الانسان دون تفويض من الأمم المتحدة.

ومفهوم السيادة بهذا الشكل لا يمكن ان يستقر ويستقيم، فليس هناك ما يبرر لأي دولة، حتى لو كانت الدولة العظمى كالولايات المتحدة الأميركية (المتحدث الرسمي باسم حقوق الانسان) ان تدعي الحق في تغيير اي نظام سياسي في أي دولة أخرى، بل ليس للأمم المتحدة نفسها مثل هذا الحق، ذلك ان القبول بهذا العمل لا يعني الحلول نفسها في تقرير مصيره والتحكم بمصالحه الخاصة، ولكنه يهدد أكثر من ذلك القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها النظام العالمي حتى الآن وهي سيادة الدولة وحريتها.

وبالتالي فلا يوجد شيء يمكن أن يبرر اليوم استمرار نظم تجرد شعوبها من حقوقها وتسومها سوء العذاب بذريعة السيادة القومية تماما، كما أنه لا شيء يمكن ان يبرر ترك شعب يخضع للاحتلال ويجرد من حقوقه وموارده ومستقبله معا كما هو الحال بالعراق (في القرن الحادي والعشرين) بذريعة الأمن او الحرب ضد الارهاب، ففي الحالتين تقع المجموعة الدولية في ذنب الضلوع مع الظلم والتقاعس عن مد يد العون لبشر يتعرضون لأخطار محدقة..

وللأسف بدلا من العمل على تطوير آليات في هذا الاتجاه على مستوى المجموعة الدولية، نجحت الأطراف في بداية التسعينيات من القرن الماضي في الحصول على تصويت المنظمة الدولية على حق سمي «حق التدخل الانساني» كان من نتيجته اجهاض مفهوم التضامن اللازم والواجب على المجموعة الدولية تجاه الشعوب المستضعفة، لصالح اضفاء المشروعية الدولية على تدخل دول المجموعة الأطلسية.

والواقع أنه في ظل العولمة تخضع الحياة الاقتصادية والسياسية أكثر فأكثر لتأثير قوى السوق، وهذه بدورها تخضع لتأثير مصالح الشركات المحلية والدولية أكثر مما تخضع لأوامر الدولة.

ومن بين التطورات الدولية التي صاحبت العولمة تغير هيكل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبين الى نظام أحادي القطبية وذهب البعض الى ان النظام الأحادي القطبية يؤدي الى انتهاك سيادات الدول. وعلى سبيل المثال لم يكن من الممكن أن يحدث لسيادة العراق ما يحدث لها الآن من انتهاكات لو استمر النظام الدولي

الثنائي القطبية

ومن التغيرات الأخرى المصاحبة للعولمة الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، فقد ترتب عليها تقريب غير معهود للمسافات بين مختلف مناطق العالم، وأدى ذلك الى أن أي حدث يقع في أي منطقة من العالم يكون له صداه في غيره من المناطق دونما اعتبار للحدود السياسية او لمبدأ السيادة الاقليمية. وترتب على ذلك العديد من المظاهر السلبية تجاه سيادة الدولة، فلم تعد هناك خطوط فاصلة بين الشأنين الداخلي والخارجي وأصبحت للدولة مسؤولية دولية مباشرة ليس فقط عن أفعالها غير المشروعة التي يترتب عليها حدوث ضرر مادي للدول الأخرى أو لمواطني هذه الدول، وانما تسأل ايضا عن أفعالها المشروعة التي تصدر عنها اعمالا مخالفة لمبدأ السيادة وفي نطاقها الاقليمي التي يترتب عليها حدوث ضرر للغير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *