بلادنا غنية بالآثار التي تشهد على تنوع الجماعات والحضارات التي تلاقت على أرضها الغنية بالكنوز والخيرات والمآثر الحية الناطقة. هذه الآثار تُعبر عن هويتنا وتاريخنا الزاخر بالإنجازات والإبداع، وتؤكد أننا شعب مبدع متجذّر في هذه الأرض التي منها انطلقت مشاعل الحضارة الإنسانية. مع ذلك، تسعى بعض الإمبراطوريات الحديثة، والتي تمثل القوى الاستعمارية الجديدة، للسيطرة عليها ونهب ثرواتها. كما يسعى العدو الصهيوني إلى تدمير آثارنا وكنوزنا الثقافية بهدف تشويه تاريخنا وطمس هويتنا القومية وإلغاء وجودنا الحضاري في سبيل تحقيق رؤيته التوراتية بإقامة “إسرائيل الكبرى”.
تعرّضت المواقع الأثرية والثقافية والدينية، والمباني المصنفة “تراثية” في لبنان، لدمار شديد من قبل دولة العدو، الذي يشن حربًا شاملة ضد البشر والحجر، مما أسفر عن خسائر بشرية جسيمة وأضرار غير قابلة للتعويض في الإرث التاريخي. ومع استمرار القصف الذي أودى بحياة أكثر من 2500 شخص، تتعرض معالم عريقة مثل آثار ومعابد بعلبك المُدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو وأسواق النبطية التجارية للتدمير المتعمد، مما يشكل تهديدًا للهوية الثقافية والتاريخية للبنان. هذا التدمير الممنهج للعديد من القرى التاريخية وطبيعتها الثقافية وللأماكن الأثرية المُصنفة عالمياً، يمتد أيضًا إلى غزة، حيث تمَّ تدمير تراثها وآثارها التاريخية، مما يمثل جريمة ضد الإنسانية والحضارة، وانتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية وقرارات اليونسكو لحماية التراث العالمي، التي تؤكد على تحييد الأماكن التراثية والمواقع الأثرية. وللتذكير، هذا النهج التدميري مارسه أيضاً تنظيم «داعش» الإرهابي الذي دمَّرَ العديد من المواقع الأثرية في سورية الشام وأهمها في مدينة تدمر التاريخية.
تدمير متواصل للمعالم الثقافية والتاريخية
مدينة “بعلبك”، أو “مدينة الشمس”، التي استوطنها البشر منذ نحو 9000 عام قبل الميلاد، والمعروفة بأنها “أقدم وأعظم مدينة معابد في العالم”، والتي يعود اسمها إلى “بعل” الإله الأقوى حسب المعتقدات الفينيقية، تتعرض لغارات متواصلة تستهدف مبانيها الضخمة التي تُمثّل أحد أبرز معالم الهندسة الرومانية. وقد استُهدفت مواقع بارزة، منها الأحياء القديمة وأنقاض معبد باخوس الشهير والسور الخارجي للقلعة التاريخية.. واستهدف معلم “قبة دورس” الأثري (في قرية دوريس) الذي يعود للقرن الثالث عشر وقد تضررت أعمدة هذا المبنى التاريخي وبدأت الحجارة تتساقط من قبته. مؤسسة ALIPH أصدرت تقريراً أوضحت فيه الأضرار الهيكلية المحتملة التي يمكن أن تتعرض لها هذه المواقع الأثرية جراء الانفجارات والاهتزازات الناجمة عن القصف، مؤكدةً على أن استمرار العنف يمكن أن يدمر مواقع تراثية تمتد لآلاف السنين.
في الجنوب اللبناني، دُمرت مبانٍ أثرية ومعالم دينية قديمة، بينها كنائس ومساجد وقرى تاريخية، وتعرضت حقول الزيتون والخروب والعنب للدمار، وهي المزروعات التي تمثل جزءًا من تراثنا الزراعي المتجذر منذ آلاف السنين. أسواق النبطية التي يعود تاريخها إلى قرنين من الزمن، والتي كانت رمزًا للتجارة والحياة الاجتماعية، تحوّلت إلى أطلال، كما طال الدمار حي السرايا وحي الميدان. وفي 16 أكتوبر، دمر العدو مقام النبي “بنيامين” بن يعقوب في بلدة محيبيب، والذي بُني قبل أكثر من ألفي عام، بالإضافة إلى مواقع أثرية أخرى بما في ذلك قلعة تبنين التي أصيبت بشكل مباشر، ومعبد قصرنبا، قلعة الشقيف، ومسجد النبي شعيب في بلدة بليدا قضاء مرجعيون، وقرية قانا القديمة التي تضم آثاراً في وسطها والتي تعرضت لقصف شديد، ومن المحتمل أن يكون مركزها، بما فيه العديد من الآثار، قد تضرر بسبب الغارات الإسرائيلية.
أما عروسة البحر مدينة صور التاريخية، الشاهدة على حضارات متعددة والمعروفة بجمال شاطئها ومعالمها السياحية والدينية والتي اشتهرت بتجارتها البحرية ومستعمراتها المزدهرة وبصباغها الأرجواني، فقد تعرضت، وما زالت تتعرض، لغارات عنيفة تهدد آثارها الفينيقية والرومانية والبيزنطية، بما فيها المعابد المخصصة للإله ملقارت، المدرجة على قائمة التراث العالمي. وتشير تقارير صادرة عن المجلس الدولي للآثار والمواقع (ICOMOS) إلى أن المواقع الأثرية، مثل بعلبك وصور، تواجه خطر الانهيار جراء الاهتزازات المتكررة بسبب القصف المستمر.
وفي بيروت، تعرضت ضواحيها الجنوبية، بما فيها مقبرة الباشورة، لدمار كبير أثَّرَ على البنية التحتية الثقافية والدينية، كما ذكرت مؤسسة “تراث من أجل السلام” وبرنامج “تعليم التراث”، مما أسفر عن تضرر المساحات الثقافية والمباني الدينية وفقدان جزء من ذاكرة المكان.
ردود فعل محلية ودولية
أثار هذا الدمار غضبًا واسعًا في الأوساط المحلية والدولية. الباحث جاد ديلاتي، من النبطية، وصف تدمير سوق النبطية العريق بأنه ضربة للذاكرة التاريخية والاقتصادية لسكان الجنوب. وأكدت منى حرب، أستاذة الدراسات الحضرية في الجامعة الأمريكية في بيروت، أن استهداف الأسواق والأماكن التراثية يهدف إلى تدمير البنية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لجنوب لبنان. وحذرت المنسّقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، جينين هينيس-بلاسخارت، من الخطر الذي يشكله القصف على مواقع أثرية، خصوصًا في بعلبك وصور، مشيرة إلى أن “مدنًا فينيقية قديمة تواجه خطر التدمير.”
مع تصاعد القلق الدولي، تعمل منظمات محلية، مثل جمعية “بلادي”، على حماية التراث الأثري والثقافي، حيث تنظم تدريبات للعاملين في المتاحف والمديرية العامة للآثار لتأمين بعض القطع الأثرية ووضع لافتات “الدرع الأزرق” وفقًا لاتفاقية لاهاي لعام 1954، في محاولة لحماية المواقع. رئيسة الجمعية، جوان فرشخ بجالي، صرحت أن الاعتداء على المواقع الأثرية يعد جريمة حرب، وأن التفجيرات القريبة منها يمكن أن تسبب أضرارًا هيكلية عبر الاهتزازات والحطام وتلوث الهواء. وأضافت: نحن “نواجه عدواً لا يحترم القانون، ويتعمد قصف المواقع التراثية يومياً.” ويقول عمر حيدر، المتخصص في ترميم المباني الأثرية، إن العدو “يتعمد إلحاق أضرار بالمباني الأثرية بشكل غير مباشر، عبر استهداف المباني المجاورة لتتأثر بفعل قوة الانفجارات.” وفعلياً، ما زالت المسيّرات والطائرات الحربية تقصف على مقربة من المواقع الأثرية مما يجعلها مهددة، نتيجة الارتجاجات العنيفة بالتلازم مع خرق جدار الصوت بشكل متكرّر.
نداءات لليونسكو والمجتمع الدولي
دعت وزارة الثقافة اللبنانية منظمة اليونسكو إلى التحرك لحماية مواقع التراث العالمي في لبنان، ووصفت القصف بأنه انتهاك للاتفاقيات الدولية. وطالب وزير الثقافة، محمد وسام مرتضى، باتخاذ خطوات عاجلة لحماية نحو 95 موقعًا ثقافيًا، وحذّر من أن الهجمات القريبة من بعلبك سيكون لها تأثير طويل الأمد. الردود الدولية لم ترقَ بعد إلى خطوات ملموسة، ولا تزال الجهود المحلية تواجه تحديات هائلة، مما يجعل حماية التراث تحت القصف مهمة شبه مستحيلة.
أثر الحرب على التراث الاجتماعي والثقافي
يشير الخبراء إلى أن هذه الهجمات تتجاوز الأضرار المادية؛ فهي تخلّف فراغًا في الروح المجتمعية للسكان، حيث ترتبط مواقع التراث بالذاكرة الجماعية والعلاقة الوثيقة بين الناس وأرضهم. الأستاذة منى حرب تقول: “تدمير هذه المواقع لا يُفقدنا تاريخنا فقط، بل يفقدنا جزءًا من هويتنا”، وتضيف “أن هذه الضربات تستهدف المجتمع بأكمله، لتدمير ارتباطه العضوي بتراثه ومكانته التاريخية.. إن فقدان هذا الارتباط أمر مؤلم للغاية بالنسبة للسكان المحرومين من بيئتهم ومعالمهم.” أما الباحث جاد ديلاتي فيقول: “تحاول إسرائيل كسر الرابط العضوي بين اللبنانيين، وأرضهم ومجتمعهم وتراثهم. هدفها هو كسر معنوياتهم حتى ينقلبوا على حزب الله ويقبلوا الشروط الإسرائيلية لإنهاء الحرب.”
الخلاصة:
في ظل الحرب المستمرة والتحديات الكبيرة التي تواجه التراث الثقافي في لبنان، يبقى الأمل معقودًا على الجهود المستمرة محليًا ودوليًا لحماية هذا الإرث الثمين للأجيال القادمة. وفي خطوة واعدة، من المقرر أن تعقد منظمة اليونسكو اجتماعًا في 12 الشهر الجاري لبحث تأمين حماية معززة للمواقع الأثرية التي تواجه مخاطر كبيرة. إن هذا الاجتماع يمثل فرصة مهمة للضغط من أجل تطبيق الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية التراث، وتسليط الضوء على أهمية حماية هذه المواقع التي تعكس هويتنا الثقافية. كما أن الجهود المحلية، سواء من العاملين في مجال الآثار أو منظمات المجتمع المدني، تظهر تفانيًا وإصرارًا في حماية الذاكرة الثقافية رغم المخاطر. إن تعاون المجتمع الدولي مع الجهود المحلية يمكن أن يسهم في صون هذا التراث، ليبقى شاهدًا على حضارتنا العريقة وصمود شعبنا للأجيال القادمة.”