الجازي الثاني وخيار الاشتباك

بقدر ما عبرت عملية الشهيد ماهر الجازي عن التضامن بالدم مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، بقدر ما كانت إنذارا مبكرا للسلطة الأردنية والأردنيين عموما إزاء الخطر الصهيوني الذي يتهددهم.

وإذا كان أسلاف الجازي وعلى رأسهم الفريق الركن مشهور الجازي رئيس الأركان الأسبق في الجيش الأردني، قد واجهوا الخطر الصهيوني على الأرض الأردنية نفسها في الكرامة 1968، فإن عملية الجازي على الجانب الآخر من النهر وقريبا من معبر الكرامة الفلسطيني مصادفة لافتة للانتباه، بل ودعوة لنقل المعركة خارج الأسوار.

في عام 1968 لم يكترث الفريق مشهور الجازي بكل التحسبات الرسمية وأوهام الاتصالات تحت الطاولة لإعادة الضفة الغربية للأردن، فقاد الاشتباك مع العدو الصهيوني، وها هو الجندي السابق في الجيش، ماهر الجازي يكرر موقف الاشتباك نفسه مع العدو ذاته دون أدنى تحسب لمعاهدة وادي عربة وأوهامها في إنهاء الأحلام الصهيونية المريضة التوسعية ضد الأردن.

الأردن في منظورات العدو الإسرائيلي

يعتقد العدو أن أخطر جغرافيا سياسية في المنطقة هي الجغرافيا الاردنية ويأمل في تحويلها إلى ملاقط اقليمية للمنطقة كلها في إطار الاستراتيجية المعروفة القائمة على تفكيك الشرق العربي، دوله وشعوبه وإعادة إنتاجها على شكل كانتونات وبانتوستانات ومعازل بشرية ومناطق حرة ومؤهلة تحت سيطرته، وتنسجم هذه الاستراتيجية أيضاً مع الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط ومثالها الواضح، العراق (إعادة انتاج العراق على شكل عرقي – مذهبي باسم الفيدرالية).

في قراءة المشروع الأردني من زاوية الحسابات الإسرائيلية – الأمريكية – يمكن لإقليم الوسط أن يشكل بالتدريج شراكة خاصة مع السلطة الفلسطينية من أجل التوطين حيث تجري الإعدادات فعلاً لبناء 3 أحزمة سكنية جديدة حول العاصمة والزرقاء

ويمكن لإقليم الجنوب ان يشكل ملقطاً إقليمياً ثلاثياً مع مصر والسعودية وإسرائيل كما كشف مصطفى بكري.

أما إقليم الشمال فهو مشروع على مرحلتين: راهنة ومؤجلة بانتظار التطورات في سورية والعراق (خط الماء السوري، وخط كركوك – حيفا النفطي مع العراق).

ذلك يعني بالمحصلة نهاية العد العكسي لدولة السيادة التقليدية واختصار الأردن كله في كوتات كانتونية.

وتستحق الاهتمام أيضاً دراستان؛ الأولى لروبرت ساتلوف والثانية لرئيس الوزراء الأردني الأسبق سعد جمعة.

الأولى (الضفة الشرقية متاعب ومشكلات) التي اعدها في مرحلة حرجة مماثلة عام 1989، والتي تؤشر التطورات الأردنية اللاحقة (الانتخابات والخصخصة ومعاهدة وادي عربة) على أنها كانت بمثابة برنامج عمل للحكومات الأردنية المتعاقبة، فكيف والرجل ساتلوف كان يدير معهد واشنطن الذي يرسم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من زاوية اللوبي اليهودي، بل إن التقرير الأخير للمعهد (يلحظ) أيضاً إمكانية إحياء فكرة البنيلوكس الثلاثي بعد إنجاز (الإصلاح) عند الأردنيين والفلسطينيين والمقصود طبعاً تفكيك منظومة الدولة والسلطة واعادة بنائها كاتحاد مناطق مؤهلة ومعازل بشرية بدون سيادة سياسية.

وكان ساتلوف نفسه من الفريق اليهودي الذي ثمن فكرة البنيلوكس القديمة عندما طرحها حنا سنيورة وخالد الحسن وهي فكرة مشتقة كما هو معروف من الاتحاد الثلاثي بين بلجيكا الأطلسية (تساوي الأردن) وهولندا المتطورة (تساوي إسرائيل) ودوقية لوكسمبورغ تساوي السلطة الفلسطينية، ومما له دلالة أيضاً عند ربط هذا الاتحاد مع فكرة الأقاليم الأردنية ما يقال دائماً عن العاصمة البلجيكية بروكسل التي تضم عناصر من قوميتين كبيرتين (فرنسا وألمانيا) ولها برلمان مستقل عن البرلمان العام.

أما الدراسة الثانية فتعود إلى عام 1968 وذلك عندما نشر رئيس الوزراء الأردني الأسبق الراحل سعد جمعة في كتابه مجتمع الكراهية مشروعاً إسرائيلياً للسيطرة على المنطقة خلال العقود المقبلة، وقد جوبه بسخرية لاذعة من العقلاء العرب الذين لا يؤمنون بالمؤامرات التاريخية!! ولم يكونوا على حق.

مخطط 1968 الذي تطبقه إسرائيل الآن

خلال سنة 1968 قامت في القدس جمعية إسرائيلية تضم نخبة من الكتاب والعلماء والمفكرين باسم “الهيئة العامة للسلام” تزعم في دستورها أنها لا تلتزم بأي اتجاه سياسي، وإنما تقتصر مهمتها على تقديم مخطط لمنطقة الشرق الأوسط سنة الفين.

وقدمت التصورات التالية:

  • قد لا يستمر الأردن بصورة تامة أو يتعرض لتغيرات كبيرة تحوله إلى دولة فلسطينية في الواقع.
  • مشكلة الفلسطينيين تحل إما داخل احدى الدول العربية – يقصد الأردن – أو بتطور قيام دولة فلسطينية مستقلة.
  • سيبلغ دخل المنطقة السنوي من البترول سنة الفين نحو عشرة بلايين دولار.
  • سيتناسب تقدم الدول بقدر ما تستعمله من حاسبات كهربائية “كمبيوتر”.
  • التقدم في وسائل المواصلات سنة الفين، سيتحرر من القيود المفروضة اليوم بسبب الحروب، تزداد السرعة فيزيد معها التقارب والاندماج بين الدول والشعوب.
  • يكون لدول الشرق الأوسط سنة الفين سوق مشتركة كالسوق الأوروبية مقرها “بيروت” وستتقاسم الدول الانتاج وفق طاقاتها العقلية والتقنية، فبينما تنتج مصر مثلاً الصناعات الهندسية والصلب والسيارات، والمحركات، تنتج سوريا صناعات الأغذية والنسج، والعراق الصناعات البترولية، ولبنان الخدمات المصرفية والتجارية، اما إسرائيل فتنتج الصناعات الإلكترونية والكمبيوتر والعلاج!
  • يجري “تحضير الصحراء بالتكنولوجيا، والري وتعذيب المياه واستصلاح الأردن للزراعات المختلفة.
  • يصبح الشرق الأوسط سنة الفين مركز تصدير هائل للخضار والفواكه والحمضيات إلى أوروبا.
  • تصبح المنطقة وحدة سياحية متكاملة. ولا ينسى المشروع اقتراح صيغ ووسائل دعاية مشتركة للمناطق الأثرية والدينية.

نظرة فاحصة في هذا المشروع الذي هو جزء من المؤامرة للإجهاز على قوميتنا، تصل بنا إلى الاستنتاجات التالية:

التعليق لسعد جمعة وكان ذلك قبل ثلاثين عاماً تاريخ صدور الكتاب:

  • افتراض بقاء الدول العربية، كيانات وطنية، معزولاً بعضها عن بعض، لا تمت بصلة إلى جامعتها العربية ووحدتها العربية، من قريب أو بعيد!
  • افتراض أن تنعم إسرائيل بالسلم الدائم، لتساهم بفعالية هائلة في السوق المشتركة بين دول المنطقة، خاصة بعد اندثار حدة التقسيمات الجغرافية وتحولها إلى حدود وهمية لاشتباك المصالح الحيوية بين إسرائيل وجاراتها من “دول الطوائف” الذليلة.
  • افتراض تقدم إسرائيل وتخلف الدول العربية، بحيث تغدو إسرائيل قلعة اقتصادية ومنارة حضارية علمية، وتبقى الدول العربية مجتمعات زراعية، او اقتصادية متخلفة، فإسرائيل هي وحدها المهيأة للصناعات الإلكترونية والكمبيوتر التي هي طاقات المستقبل الحقيقية، أما “سوريا” مثلاً فتظل سوقاً زراعية.. وأما “لبنان” فيكرس للخدمات المصرفية والتجارية… إلخ.
  • وضع المنطقة كلها في خدمة مشاريع إسرائيل السياحية لأن إسرائيل أي فلسطين كلها، بما تشتمل عليه من معالم دينية وأثرية هي مهوى أفئدة اتباع الديانات الثلاث.
  • افتراض استمرار الفروق الحضارية العلمية بين إسرائيل والدول العربية على ما هي عليه اليوم بل تعميقها، فبينما يصل دخل الفرد القومي في إسرائيل إلى خمسة آلاف دولار سنة ألفين يظل دخل الفرد القومي في مصر ثلاثمائة دولار!
  • المشروع بتمامه وكماله، يعني شيئاً واحداً: تصبح إسرائيل سيدة المنطقة دون منازع بين كيانات متفسخة متخلفة حضارياً واقتصادياً.

ويتابع جمعة افتراض تحول الأردن إلى وطن بديل بالمعنى الموضوعي. وتتكشف لنا بوضوح خيوط المؤامرة التي أعدت الأردن منذ أعقاب الحرب ا لعالمية الأولى ليكون مقراً للفلسطينيين المطرودين من بلادهم، وممراً للغزو الصهيوني، اقتصادياً وسياسياً إلى المنطقة كلها، وبذا تتحقق الخطوة الأولى لإنشاء إسرائيل الكبرى بافتراس فلسطين كلها ومنح الفلسطينيين الحق الذي حرموه.. حق تقرير مصيرهم. لكن في غير وطنهم! وتنجو الدول العربية من مسؤولية الثأر، ووجع الدماغ ولو إلى حين!

ويرتبط بذلك ما قامت به الجمعية المذكورة عندما أصدرت في آذار 1970 كراساً تفصيلياً سياسياً لحل مشكلة الشرق الأوسط، بعنوان: “أربعة حلول لقضية الفلسطينيين” ولا أحسب اللؤم في هذا العنوان يخفى على فطنة القارئ، فالنزاع ليس بسبب القضية الفلسطينية وطناً وشعباً، بل هو مشكلة لاجئين!؟

كما يفترض الحل أن الفلسطينيين يكون Cea Nati – لاحظ اللوم في هذا التصور – وان عليهم أن يطوروا ويبرزوا إطاراً خاصاً بهم في نطاق محيط عربي، يلبي مطالبهم القومية والسياسية التي لا تتعارض مع الوجود الإسرائيلي والكيان الإسرائيلي، وعندما يتوصل الفلسطينيون إلى تسلم السلطة، ويحققون أطماعهم في الحكم، يمكنهم البدء بحوار مع إسرائيل للتفاوض على حل المشاكل الأخرى.

أما قضية اللاجئين فيعتقد الكراس أن المحاولات المبذولة لحلها على أساس القرارات الدولية في العودة أو التعويض، غير عملية، لأن دوافعها سياسية لا إنسانية.