حجرُ الزَاويَة

التاريخ يكتبنا إذ نكتبه، ويصنعنا عندما نصنعهُ، ويسكنُ فينا إلى الأبد إذ نظنُّه انقضى وقضى انتحاراً في بحر النسيانِ. من لا يعرفُ تاريخه لا يعرف حياةً ولا وجوداً، وإن كان يتنفّس ويتحرّك. فكما اسمنا يرسم هويّتنا، كذلك العلوم هويتها في أسمائها. سمّى الغرب الحديث التاريخ قصّة أو رواية أو حكاية بكلمة عالمية قديمة هي الإستوريا (Historia) أي الأسطورة بالعربية التي جُمعت على أساطير. عرفت لهجاتنا الساميّة منذ أزمنةٍ سحيقةٍ عبارة عن الأسطورة وجمعها على أساطير وربطت بمضاف إليها بعبارة الأولّين والأقدمين. وصارت منذ حوالي 2500 سنة، بناءً خيالياً قائماً على حجارة من أوهام وخزعبلات وخرافات وأنباء سرّية عن عالم من آلهة وجنٍّ وشياطين في الأرض والسماء. نشأ علم التاريخ الحديث مؤخراً إنطلاقاً من تاريخ (أو تواريخ) هيرودوت الذي توجّه الغرب بلقب ” أبي التاريخ “. وكلّ من يقرأ تاريخ هيرودوت يكتشف بلمس اليد أن هذا التاريخ الأصيل هو عبارة عن نوعين من التاريخ هما: تاريخ الممالك والملوك والأحداث الكبرى في السياسة والعمران وتاريخ الأصرحة الدينية والالهية والطبقة الرفيعة الانسانية المرتبطة بهم. فنحن أمام تاريخ الآلهة والبشر الحاكمين تحت رعاية هذه الآلهة.

 أخذ الغرب بالمفردة القديمة (Historia) وحصر ميدانها بأخبار الممالك والحضارات دون التطرّق إلى الآلهة لا من قريب ولا من بعيد. ثمّ أقام علماً قائماً بحدّ ذاته عن أخبار الكائنات السماوية الفائقة السمو وطبعهُ بخاتمِ الغيبِ والأعاجيب تحت عبارة:” الميثولوجيا”. أمّا في مشرقنا العريق والمجيد فقد كرّسنا هذا الانقسام الخطير في علم التاريخ قبل الغرب بزمانٍ سحيقٍ يقدّر بألفين وخمسة مئة من سنوات خلت بفعل تأثيرات الحضارات الكبرى الأخيرة من فارسية ويونانية ورومانية. واتّخذ من مفردة التاريخ علماً لدراسة الأحداث الملكيّة والسياسيّة. هذا التمييز في الشرق والغرب بين التاريخ والأسطورة أدخل البشرية عملياً وعلمياً منذ سقراط وبلاتون وأرسطو في شيزوفرينيا ما زلنا نعاني منها الى اليوم ونتحمّل نتائجها الكارثيّة في كلّ علم، وعملٍ، وكلِّ نشاطٍ، وفكرٍ.

فنحن نعيش في حالةٍ مرضيّةٍ بارودوكسيّةٍ لأننا نعيش التاريخ وروايته في الحياة والسياسة بفكر الأسطورة والميثولوجيا. وإذا لم نسارع إلى مصالحة حقيقيّة بين التاريخ والاسطورة على قاعدة أنّهما في الأساس شيء واحد بالتمام والكمال، فإن الكوكب لن يستطيع معرفة حقيقة الماضي ولا إمكانية السلام والوحدة في مستقبل قريب. وبالتالي سيظلّ التاريخ بدون هذه المصالحة العلمية طريق جلجلة لا تنتهي كوارثها. فقد أحكمت الامبراطوريات الاسلاميّة على مدى 1300 عام قبضتها على الكوكب بالفكر الشيزوفريني ذاته الذي دمّر أعتى امبراطوريات الدنيا: الفرس واليونان والرومان. كان الغرب الأوروبي والأمريكي في القرون الخمسة الأخيرة يعدّ نفسهُ ببطءٍ لقيادة العالم عبر الثقافة والتكنولوجيا وتحقّق له المرام عندما أسقط الامبراطورية العثمانية الاسلامية الأخيرة في الحرب الكونيّة الأولى العام 1914. عندئذٍ عادت الشيزوفرينيا للحكم مجدّداً بصيغتها المسيحية طوال قرن من الزمن إلى يومنا. اليوم، وعلى أثر العصر الغربي المدمّر للذات الانسانية وللتراث تثور براكين جديدة في وجهها ستفجّر كل شيء وتصهره تمهيداً لعصرٍ جديد. جميع هذه التحوّلات تصبّ في محيط التاريخ. تأتي كلمة “تاريخ” من الجذر “ترك” بعدما لفظت الكاف خاءً التي أتت هذه أصلاً من الحرف المركّب “Ch” أو “ck”. هذا والطاء والتاء هما حرف واحد او في الأساس هو التاء “T “الذي يلفظ بالتخفيف حيناً والتفخيم حيناً آخر. وهكذا، تتماهى لفظة التاريخ معنىً ومبنىً مع كلمة ” طريق ” كذلك يأتي التاريخ من الجذر “ترك” أي خلّفَ وراءه أثراً. ولفظة التراث تتماهى مع العبارة الغربية (Traces) وكلاهما يعنيان ما تركه الأجداد من تراث في الحجر والبشر. وعليه، يكون التاريخ أسمى علم وأشمل منبع لأنه يحتوي على الأزمنة والحياة، والسياسة، والفكر، والمصير. فالأمة التي لا تعرف تاريخها هي أمّة بدون شأن ولا مستقبل لها مهما تعالى صراخها. فلا خلاص لأمة، ولا خلاص لهذا الكوكب إلاّ في السير على آثار التاريخ في كلّ شيء لأنّ قيامة الذاكرة هي طريق المستقبل في الوحدة والعلم والحياة.