التحديات التي تواجه الاقتصادات العربية بين البناء والتهديم

التحديات التي تواجه الاقتصادات العربية بين البناء والتهديم

تواجه عمليات الإصلاح الاقتصادي في بلدانٍ عدّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تصاعد وتيرة الاستياء الاجتماعي الاقتصادي . ففي العام 2019، عمّت موجةٌ من الاحتجاجات الشعبية السودان والعراق ولبنان والمغرب والأردن والجزائر، وهي دولٌ بقيت بمنأى عن الانتفاضات العربية التي انطلقت شرارتها في فترة 2010-2011. ولم تقتصر مطالب المتظاهرين على إحداث تغييرات في أنظمتهم السياسية، بل شملت أيضًا تحويل الأنظمة الاقتصادية القائمة بشكلٍ جذري، مندّدين بارتفاع الأسعار، والتوزيع غير المتكافئ للثروة، واستيلاء النخب على الموارد وسيطرتها على مصادر الريع، وغياب العدالة الاقتصادية.

وتؤكد معظم الدراسات والتقارير ان النمو السكاني يعد اول التحديات التي تواجه الدول العربية لمؤثراته السلبية التي تزداد بشكل كبير نحو امتصاص نتائج التنمية، وزيادة الطلب على المرافق العامة والخدمات الصحية، وهدر الموارد المتاحة وإعاقة تنميتها، بخاصّة في مجال خلْق فُرص عمل جديدة لمُكافَحة البطالة. مع العِلم أنّ الحاجة أصبحت مُلحّة لتوفير أكثر من ستّة ملايين فرصة عمل، وأنّ هناك 50 في المئة من الوظائف الموجودة حاليّاً، لن تكون متوافرة في المستقبل، في الوقت الذي تنحسر فيه الاستثمارات البَيْنيّة العربيّة.

 سنحاول مناقشة اهم عوامل ضعف الاقتصادات العربية وأثرها السلبي.

البطالة

ومع ازدياد عدد العاطلين عن العمل، تبرُز مشكلة البطالة المُستمرّة في التفاقُم، كمتغيّر ونتيجة لتحوّلات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، متأثِّرة بتداعيات الحروب والاضطّرابات الأمنيّة وما نتجَ عنها من نزوحٍ وهجرة، داخل المنطقة العربيّة وخارجها، وشملت ما لا يقلّ عن 20 مليوناً من أربعة بلدان معنيَّة (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن)، فضلاً عن بعض البلدان الاخرى

اللامساواة والتفاوت في توزيع الدخل

واقع الحال هو أن فجوة اللامساواة الاقتصادية عميقة للغاية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارنةً مع مناطق أخرى حول العالم. وقد فاقمت عوامل عدّة أوجه التفاوت الاجتماعي الاقتصادي، أبرزها تفشّي جائحة كوفيد-التي عصفت بدول عدّة في المنطقة واندلاع الحرب في أوكرانيا،

وأزمات الغذاء و الطاقة و الديون، وألقى هذا الوضع بظلاله على الفئات السكانية الأكثر احتياجًا وتهميشًا، التي عانت من نقص الموادّ الغذائية، وتقلّبات أسعار السلع، اضافة لارتفاع درجات الحرارة بسبب تغيّر المناخ، وندرة المياه، وتدهور أحوال الأراضي، وخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة.

هذا ولم تضع حكومات المنطقة في صُلب أولوياتها اتّخاذ الإجراءات اللازمة لمكافحة اللامساواة.  رغم تداعياتها على النمو الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، وقدرتها على تقويض المؤسسات التمثيلية، وتوطيد أركان الأنظمة الشعبوية

تسجّل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين العامَين 1990 و2016، أن ما يقارب 64 في المئة من إجمالي الدخل ذهب إلى شريحة الـ 10 في المئة الأعلى دخلًا من السكان.

تُعزى هذه النسب المرتفعة من تركّز الدخل إلى أوجه اللامساواة داخل البلدان، وأيضًا فيما بينها، ولا سيما بين دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر ثراءً من جهة، ودول أخرى ذات كثافة سكانية عالية من جهة أخرى وقد ارتبطت أوجه اللامساواة بتآكل الطبقة الوسطى في المنطقة

تآكل الطبقة الوسطى

بدأ حجم الطبقة الوسطى بالتقلص ليصل الى أقل من 40 بالمائة من مجموع سكان المنطقة في السنوات الاخيرة

، إذ غرقت الدول، ولا سيما البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل في دوّامةٍ من التحديات، بدءًا من أزمات الديون المتكرّرة، والتدابير التقشّفية، والمستويات المرتفعة من الفقر، ونقص تمويل الخدمات العامة، ومرورًا بالتوزيع غير المتكافئ للموارد، ونشوب الصراعات، وتنامي الاقتصاد غير الرسمي، ووصولًا إلى معدّلات البطالة المتزايدة، والأنظمة الضريبية غير العادلة، وتداعيات تغيّر المناخ، وغيرها من المشاكل.

وما زاد الأمور سوءًا تفشّي جائحة كوفيد-19 التي أثّرت بصورة غير متكافئة على المجتمعات المحلية الأكثر احتياجًا، بما في ذلك الفقراء، واللاجئين

. واقع الحال أن ثمة أزمة كبيرة تلوح في أفق المنطقة نتيجة استمرار الحكومات في تجاهل مشكلة اللامساواة والإحجام عن إجراء الإصلاحات اللازمة

فشل تحقيق التنمية المطلوبة

بعد الحرب العالمية الثانية، اقترن تطبيق نموذج التنمية العربي بالتركيز على الإنتاج المحلي والنزعة التجارية الحمائية، وذلك ما يعرف بتصنيع بدائل المستوردات. وفي العقود الأولى بعد الحرب، حققت أغلبية البلدان العربية نتائج إيجابية في ميدان النمو الاقتصادي، وسجّل كثير منها ارتفاعاً ضخماً في معدل العمر المتوقع، والقدرة على القراءة والكتابة، والصحة العامة. وفي الستينيات والسبعينيات، كان الشرق الأوسط هو المنطقة الأسرع نمواً في العالم، وتعزّز ذلك بالحظر على النفط العام 1973 وأفضى ذلك إلى تغير دائم في بنية أسواق الطاقة العالمية، ومهّد السبيل أمام العائدات الهيدروكربونية الاستثنائية التي أعقبت ذلك. ومع مرور الوقت، أبرمت البلدان العربية صفقات سلطوية– أي عقوداً اجتماعية ضمنية بين الحكومات والمواطنين، جرت فيها مقايضة الرفاه الاجتماعي، والوظائف، والأمن بالرضوخ والاستكانة السياسية، كما بدأت البلدان المصدّرة للنفط، وأنظمة الحكم الملكية الخليجية بصورة خاصة، بالتمتّع بثروات غير مسبوقة.

وفيما كانت النخب العربية تستمتع بمنافع النظام الريعي، فإنها كانت تبذل قصارى الجهد لمجاراة معدلات التكاثر السكاني المتعاظمة، وانتقال أهل الريف المُتسارع إلى المدن. واستجابت أكثر البلدان في المنطقة إلى التخمة العمالية التي نتجت عن ذلك بتحويل ريع الموارد الهيدروكربونية لخلق وظائف في القطاع العام. غير أن ذلك لم يكن إلا حلاً قصير الأمد. فبحلول الثمانينيات، وجدت الجمهوريات العربية. على خلاف جيرانها الأكثر ثراء في الخليج، صعوبة متزايدة في توليد العملة الصعبة الضرورية للمحافظة على نظم الرفاه الاجتماعي السخية فيها. وقد حاولت هذه الدول، في مواجهة معدلات الفقر المتزايدة، تبنّي إصلاحات ليبرالية في السوق بدعم من قروض التصحيح الهيكلي من صندوق النقد العالمي والبنك الدولي. وفي الدول ذات الكثافة العمالية العالية، والموارد الشحيحة مثل مصر، والأردن، وتونس، جرى تفكيك القطاعات العامة

الربيع العربي

لقد أَجمعت معظم التقارير على أن الصراعات الأمنية والسياسية التي بدأت في العام 2011 مع أحداث “الربيع العربي”، أَنتجت خسائر ماليّة واقتصاديّة كبيرة قُدِّرت بأكثر من تريليون دولار، وأثَّرت بشكل مباشر على نحو 87 مليون شخص في أربعة بلدان عربيّة هي: العراق، سوريا، ليبيا، واليمن، وفق تقرير خاص للبنك الدولي، أي نحو ثلث سكّان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (تقرير الآفاق الاقتصاديّة العالَميّة 2018: منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، البنك الدولي، 2018. وأشار التقرير إلى أنّ نحو 45 مليون شخص في هذه البلدان يحتاجون إلى مُساعدات إنسانيّة (13,5 مليون في سوريا، 8,2 مليون في العراق، 21,1 مليون في اليمن، 2,4 مليون في ليبيا)، فضلاً عن ارتفاع معدّلات الفقر ونسب البطالة. وانعكست تلك الصراعات بشكل سلبي على استقرار ملايين الأُسر وقلَبت حياتهم رأساً على عقب. ولوحِظ أنّ الضرر على النساء كان كبيراً جداً، بخاصة أنهن غالباً ما يكنّ هَدفاً لعنف مُمنهَج، وأنّ بنية الأسرة تفكَّكت وتضرَّر كلّ فردٍ فيها بشكلٍ متفاوت، لكنّ الوزر الأكبر للضرَر تحمَّله الأطفال الذين فقد كثير منهم الأمان العاطفي، مع العِلم أنّ المجتمعات تكون ضعيفة بضعف الأسرة وقوية بقوتها.

يشهد التاريخ على أنّ مرض الطاعون الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر، حصدَ أرواح الملايين من البشر، ثمّ أعقبته بعد ذلك حضارة متقدّمة. كذلك الحرب العالَمية الثانية في ثلاثينيّات القرن العشرين، التي قضت على ما يزيد عن خمسين مليون شخص، ودمَّرت ملايين المنازل والمَباني والمؤسّسات، وكانت بمثابة صعقة كهربائيّة، أعادت سكّة الإنسانيّة إلى الاتّجاه الصحيح، فحقَّق العالَم، بعد حربٍ طاحنة، قفزة جريئة وكبيرة من التقدُّم العِلمي والتكنولوجي، نشهد حاليّاً انعكاساتها الإيجابيّة في تطوُّر الاقتصاد العالَمي ونموّه

المطلوب

تتطلّب إقامة نظام جديد في العالم العربي من الدول أن تبدأ بمواجهة نظام المحاباة وشبكات المحسوبية التي تشوّه المخرجات الاقتصادية وتحدّ من توليد فرص العمل. من هنا، لم يكن التحدي الاقتصادي تقنياً وحسب، بل كان سياسياً في الوقت نفسه.

باحث في الشأن الاقتصادي /دمشق