من الثابت أن ثقافة سعاده كانت غير عادية. كانت واسعة متنوعة وعميقة. قلما نجد فردا استطاع الجمع بين المعرفة الشاملة والمعرفة العميقة. كان حالة لافتة. ويكفي أن نلقي نظرة على المصادر والمراجع التي استخدمها سعاده خاصة في كتبه “الإسلام في رسالتيه” و”نشوء الأمم” والصراع الفكري في الأدب السوري” ناهيك عن مئات المقالات المتنوعة في كل الحقول، لنؤكد هذا الأمر في فترة زمنية قصيرة جدا مشبعة بالانشغالات العملية.
ومن الثابت ان سعاده كان على اطلاع واسع على الفكر الفلسفي، والفكر الاجتماعي، والاقتصادي، والديني، وجملة من العلوم الإنسانية والطبيعية.
ومن الثابت أن سعاده كان متابعا للفلسفة ولمذاهبها ومدارسها وتاريخها وتطورها والاسئلة التي طرحتها وكيف عالجتها، من السورية القديمة التي أعاد تسليط الضوء عليها واستعادتها، وخاصة الرواقية، ثم اليونانية ثم السورية اللاحقة بمساريها السوري-الإسلامي والأوروبي-المسيحي وصولا الى عصر الانوار وعصر النهضة، انتهاء بعصره، والاشتباكات العنيفة التي خاض هذا الفكر فيها، وجملة النقاشات التي أجراها. واضح أن لسعاده اطلاعاً عميقاً على مجمل المذاهب الفلسفية كالطبيعية واللاطبيعية والوجودية (الملحدة والمؤمنة والصوفية) والماركسية والدينية، وعلى مجمل مقولاتها، والموضوعات التي ناقشت الفلسفة فيها كالوجود العام والوجود الإنساني والله والقيم ونظرية المعرفة والاخلاق والحقيقة وما تفرع منها وغيرها. من الواضح انه كان مطلعاً عليها بدقة وكان له رأي نقدي واضح في كثير من مقولاتها.
من الثابت ان سعاده كان مطلعاً على الفكر السياسي وعلم السياسة ومذاهبه ومدارسه وتاريخ كل منها، والنظريات السياسية وأهم موضوعاتها كالدولة مثلا، وفلسفة نشوئها وأشكالها والمعضلات التي واجهتها، وخاصة النماذج التاريخية كالسورية واليونانية والرومانية والنظريات المعاصرة وصولا الى الدولة القومية او الدولة-الأمة، وكثيرا من المفاهيم السياسية من نظرية العقد الاجتماعي التعاقد (هوبز لوك روسو..) والنقاشات التي رافقتها، والفاشية والنازية، والأقليات، ومفاهيم التمثيل، والليبرالية والديمقراطية والديكتاتورية والاستبداد، والسيادة والثورة والمساواة والطبقة والمصلحة العامة والخير العام والإرادة العامة والإجماع والاشتراكية واليسار والعدالة، والعلاقة الجدلية بين الدين والدولة وغيرها من المفاهيم. كان واضحاً اطلاعه على مجمل التراث الفكري السياسي الأوروبي، والقومية بنظرياتها المختلفة من النظرية الألمانية (وحدة الأصل)، الى نظرية وحدة اللغة، الى نظرية الأهداف المشتركة، الى نظرية النفسية الاجتماعية، الى النظرية الماركسية، أيضا لى تراث عصر النهضة (الشدياق، البستاني، المراش، فرح أنطون، الكواكبي، الشميل، العازوري، الريحاني، خليل سعاده، فيليب حتى…).
ومن الثابت أيضا أن سعاده كان مطلعا على الفكر الاجتماعي وعلمه وفلسفته ومذاهبه وعلم الاجتماع ومدارسه، من المدرسة التطورية الى الانتشارية الى البنيوية والوظيفية ،من ابن خلدون الى اوغست كونت ودوركايهم وسبنسر، وفروع علم الاجتماع كالأنثروبولوجيا (الفيزيائية والثقافية) ولم النفس الاجتماعي وعلم السلالات وغيرها، وكان له رأي نقدي كبير فقدم اسهامات فيها .
ومن الثابت أيضا أن سعاده كان مطلعا على التاريخ (العلم والفلسفة) والنظريات في حقله، فمن تاريخ العالم القديم وتاريخ سوريا وأوروبا (اليونان وروما العصر الحديث وخاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية ) والتاريخ العالم الاقتصادي الاجتماعي، ومتابعا لعلم الآثار وآخر المكتشفات وما كانت وصلت اليه خاصة في سوريا.
من الثابت أيضا ان سعاده كان مطلعا على الأديان وتاريخها ومعتقداتها وانقساماتها ومذاهبها وقضايا الاختلاف العقدية فيما بينها في تفسيرها او ألفقهية التي نشأت بينها ، والأهم على الاساطير وعلومها، وعلى الفكر الديني وكيفية تطوره وتطور العبادات والطقوس والمعتقدات والرموز والتجربة الروحية، والنظرات المختلفة الى الحياة من السورية الى الهندية الصينية، والدولة الدينية الثيوقراطية، وأجرى قراءة نقدية لها .
والثابت أيضا ان سعاده كان مطلعا على الفكر الاقتصادي وعلمه وفلسفته، ومذاهبه ومدارسه والاشتباكات الحاصلة بينها، وعلى مجمل المفاهيم الاقتصادية وتحليله والنقاشات التي رافقتها وعلى تطور الفكر الاقتصادي والأنظمة الاقتصادية من التاريخ الجلي وصولا الى عصره.
من الثابت أيضا ان سعاده كان مطلعا على الجيوبوليتيك وعلى الأدب ونظرياته ونظريات النقد الأدبي ومفاهيم التجديد والفنون الأدبية كالرواية والشعر والملاحم، والفنون كالموسيقى والمسرح وغيرها ومدارسها ونظرياتها المختلفة. ونمضي نعدد في القانون والحقوق والبيئة وغيرها
.كيف نرى اسهاماته ومن اللازم قوله إن هذا العرض ليس لحشد قيمة انبهار إضافية بسعاده حيث لا يقدم الانبهار أي مساهمة فكرية، بل يشكل استخداما خاطئا لجهوده ونتاجه، ان حشد هذه المعطيات لمعالجة مسألة مهمة جدا: لماذا لم ينصرف سعاده الى المتابعة في هذه النقاشات والتوسع في الكتابة والاسهام في كل هذه الموضوعات؟ وعلى أي معيار نقرأ مساهماته؟
الثابت أن لسعاده اتجاها واضحا في كل ما كتب وأسهم: ان نقطة الابتداء هي الأمة: الويل، التيه، الانحطاط، التخبط، وكيفية الخروج منها النهوض الارتقاء.
إذا أي أساس فكري لهذا الخروج؟ أي أساس فلسفي؟ أخلاقي؟ اقتصادي؟ اجتماعي؟ سياسي؟ إنه النظام الجديد الذي أكد في الغاية السعي لتأسيسه. ما هو شكله؟ أسسه؟ هي الأدوات الصالحة لهذا النهوض ولإقامة هذا النظام؟
ما هو المشترك في كل ما ذكرناه سابقا ومن كافة الحقول دون استثناء؟ انه مربوط مشدود متمركز حول هدف واحد: الامة ونظامها الجديد. ?
نعود الى نقطة الابتداء في نص سعاده: ما الذي جلب على امتي هذا الويل؟ وكيفية الخروج منه؟ واي نظام جديد بديل؟
لذلك قد يبدو من غير المفيد ان يكون فكرنا مشغولا بقضايا تشغل الفكر العالمي وموضوعاته ولا بأزماته التي تعبر بالأساس عن مشاكله وخصوصية مجتمعاته ،و قضايا تحرر الأمم عامة، ولا بقضايا الدفاع عن مشكلات الفكر الديني ومآزقه، وقضايا الجندر والنجاسة والعولمة والمثلية، ونظريات نشوء الكون وأصله ومصيره، وخلود النفس وقضايا الخلاص الماورائي، وبتدهور البيئة العالمية وذوبان القطب، وقضايا الحداثة وما بعد الحداثة والإنسانية وما بعد الإنسانية، بقضايا الأمم الأخرى وسيادتها و نظراتها الروحية، ولا بطريقة أدارة شؤون حياتها.
وحدها القضايا المتصلة بحياة امتنا بشكل مباشر من هذه القضايا يمكن ان تشكل اتجاها ثانويا اعمى للاتجاه الأساسي المركزي. فنحن مثلا لا نناقش في العولمة، بل نناقش مصالحنا القومية، والعولمة. لا نناقش النظام العالمي الجديد، بل نناقش مصالح أمتنا في ميدان النظام العالمي الجديد.
اذاً نحن معنيون وأخيرا وكأولوية عملية، بقضية حياة أمتنا ومشكلة انحطاطها العقلي والنفسي والروحي، وتشرذمها، واستعادة هويتها، وسيادتها على ارضها وثرواتها ، ووحدتها الاجتماعية والروحية ، تخلفها الاقتصادي، وتدهور بيئتها وتصحرها وجفاف مياه أنهارها، وكيفية نهوضها وصمودها وتحرير ارضها المحتلة واعادة دورة حياتها المعطلة بعوامل التجزئة السياسية والاجتماعية ، ورأب علاقتها بتراثها وقيمه الروحية النفسية الاخلاقية، استعادة هويتها واستقلالها النفسي والروحي و ومصالحها، وارادتها ونهوضها وصمودها،
هذا هو اتجاه الفكر الواضح لدى سعاده والذي يشكل محورا واحدا ومجالا واحدا للفكر القومي الاجتماعي ، قد يليه ما يمكن ان يقدمه هذا الفكر، للفكر العالمي كرسالة ومساهمة وعطاء طبعت خطنا النفسي الأخلاقي التاريخي .
ان الفكر الذي يترك قضية حياته وينصرف الى قضايا الأمم الأخرى فكر مختل الأولويات.
اشعر ان اختلالا حاصلا في اتجاه الفكر القومي يتبدى في بعض النزوع أحيانا نحو مسائل قد تبدو من باب الترف، لذلك يبقى ان اعادة تأسيس مقياس او معيار او اتجاه عام وربطه بالاتجاه الذي أسسه سعاده هو مسألة أساسية وضرورية .
اعادة تصحيح بوصلة الفكر هي ضمانة لازمة لعدم تشتته وضياعه.