أولوية القِيَم

أولوية القِيَم

أولاً: في معنى القِيَم

القِيَم هي جمع قيمة، والقيمة هي لما له نفع وفائدة وفعل وتأثير إيجابي للإنسان، لذلك نقول فيما ليس له نفع وفائدة وفعل وتأثير أن ليس له قيمة، بلا قيمة!

إن قيمة الأشياء المادية هي مُجمعٌ عليها، فكل الأشياء المادية هي قَيِّمة، لها قيمة، أي لها نفع وفائدة للإنسان ولها فعل وتأثير إيجابي فيه، لكن لماذا لا نستعمل مصطلح “القيم المادية”؟ لماذا كلمة “قيم” صارت تعني لنا فورًا أنّها روحية – نفسية؟ الجواب هو أن الشؤون الروحية- النفسية هي التي تحتاج للتأكيد على قيمتها ذلك لأنها كانت ولا زالت مدار خلاف إذا كانت قِيَم حقيقية أم لا؛ أي إذا كان لها نفع وفائدة وفعل وتأثير إيجابي للإنسان أم لا، فاستحوذت على مصطلح “القِيَم” للتأكيد والتشديد على قيمتها، أي على نفعها وفائدتها وفعلها وتأثيرها، وصرنا كل ما قرأنا أو سمعنا كلمة “قِيَم” يذهب تفكيرنا الى القيم الروحية النفسية فقط!

ولتوضيح هذه المسألة أكثر؛ يجب أن نلاحظ بأن الفلسفات المادية، أي الفلسفات ذات النظرة المادية البحتة الى الحياة والإنسان والتاريخ والتطور وعوامله، لا تعترف أن للروح قيمة، أي لا تعطي قيمة وفعل ودور وتأثير لما ليس ماديًا، فهي مثلاً لا تسمّي الحق والخير والجمال وسائر ما لا يقاس ولا يزان ولا يحد في مكان وزمان معين، قيمًا، بل تعتبره مجرد “فوقيات” و “تراكيب عليا” وانعكاسًا للمادة فقط لا غير. لكن هذه النظرة المادية لم تستطع إقناع العالم الذي عمد الى وصف وتسمية الشؤون الروحية النفسية بالقيم، وذلك من باب التشديد على قيمتها ودورها وفعلها الإيجابي للإنسان.

هناك من يتساءل ويقول: لماذا اهتم سعادة بالقيم عموماً وبالقيم الروحية خصوصًا؟ لماذا أثار هذه المسألة؟ وهل لها علاقة بمبدأ “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة” الذي هو جوهر مبادئه الاساسية ومحور قضيته القومية كلها؟

الجواب هو أن سعادة كان في النصف الأول من القرن الماضي في مواجهة مع الفلسفات المادية البحتة التي تنكر قيمة الروح (القومية هي روح الأمة)، وهذه الفلسفات المادية كان دعاتها قد انتصروا في الحربين العالميتين الأولى والثانية وهيمنت ثقافتهم على شعبنا وعلى العالم: الرأسمالية الليبرالية و”صنوها” الاشتراكية الشيوعية.

سعادة لم يكن محتاجًا للتأكيد على قيمة المادة في الحياة الإنسانية، لأن قيمة المادة وفعلها وتأثيرها ودورها في الحياة والتاريخ كان مسلّما بها ولا تحتاج لتأكيد. وسعادة لم يكن يواجه الفلسفات الروحية (النازية والفاشية) لأنه لم يكن يخشاها، فهي كانت مهزومة، ورغم ذلك فقد انتقدها أيضاً.

 إن سعادة كان محتاجًا للتأكيد على قيمة الروح، هذه القيمة التي كانت فلسفات المنتصرين في الحرب تنكر قيمتها وفعلها وتأثيرها في الحياة والتاريخ والتطوّر، وكان السوريون بحاجة الى فعل القيم الروحية فيهم ليتمكنوا من إطلاق نهضتهم وتحقيق استقلالهم ونيل حريتهم. كانوا بحاجة لإيقاظ قيم الحق والعدل والسيادة والوطنية والقومية، وهذه كلها قِيم روحية كان المنتصرون في الحرب ينكرونها عليهم. الماركسية كانت تعتبر القومية شأنًا رجعيًا تجب محاربته، والرأسمالية الليبرالية كانت تحارب القومية وتدعوا للعالمية وتجاوز القوميات.

يقول سعادة في مقالته الخالدة “الحق والحرية” عن قيم الحق والخير والحقيقة والجمال… ما يلي:

“ليست قيمة الحق ولا قيمة الحقيقة والخير والجمال مادية، فهي لا تقاس بالسنتيمترات أو بالأمتار المربعة أو المكعبة ولا توزن بالأواقي ولا بالارطال ولا تُحَدّ بمكان أو زمان معين. إنها قيم إنسانية نفسية… ولمّا لم تكن هذه القيم مادية لم يمكن أن يكون لها تحديد واحد أو مفهوم واحد في العالم. فلا إجماع على مدلول هذه القيم ومفهومها بصورة مطلقة في العالم الإنساني إلّا حيث ينتفي تنوّع النظر أو تنوّع المصالح وتصادمها بين المجتمعات الإنسانية كما بين فئات المجتمع الواحد”. نلاحظ أن سعادة لم يقل: ” ولما لم تكن القيم مادّية…”، بل قال: ” ولمّا لم تكن هذه القيم مادّية…”. وهذا يعني أن هذه ليست مادية، ولكن تلك يمكن أن تكون مادية، فالقيم إذاً تحتمل أن تكون مادية أيضاً وليس فقط روحية.

إنّ دليل سعادة على أن قيم الحق والخير والجمال والحقيقة، وغيرها، هي قيم روحية- نفسية وليس مادية، هو أنها لا تقاس ولا تزان ولا تحد بمكان أو زمان معين. وهذا يعني أن ما يقاس أو يزان أو يُحد بمكان أو زمان معين هو مادّي، وطبعاً له قيمة، هو قيمة مادية، مثلما هو الهواء والماء والطعام واللباس والبضائع قيماً مادية.

إنّ الفلسفات المادية لا تنكر وجود الروح، بل تنكر قيمة الروح وفعلها وتأثيرها ودورها في تكييف الحياة، وهذا هو معنى أنها “مجرّد” انعكاس للمادة فقط لا غير، فوقيات ومركبات عليا لا فعل ولا دور ولا تأثير لها في الحياة.

وهاكم مثل واحد من كتاب ماركس “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”:

” إن طريقة تأمين الحياة المادية تكيِّف بوجه عام نمط الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية. فليس الفكر هو الذي يكيِّف وجود المجتمع، بل نوع الوجود الاجتماعي هو الذي يكيف الفكر… وإذ يتبدّل الأساس الاقتصادي ينقلب المُرَكّب الأعلى رأساً على عقب.” (ماركس لم يذكر لنا سبب تبدّل الأساس الاقتصادي (الحياة المادية)، أليست العوامل الروحية مثل الثقافة ودرجاتها والفكر وفعله هو ما يسبب ذلك؟ أليس للفكر دور في تكييف وجود المجتمع؟)

أيضاً: “يرتبط الناس في حياتهم الاجتماعية بعلاقات معلومة، مستقلة عن إرادتهم، ناجمة عن كيفية إنتاجهم المادي. وعلاقات الإنتاج هذه تتناسب مع درجة تطور مقدرتهم المادية الإنتاجية، وتؤلف مجموعة هذه العلاقات تركيب المجتمع الاقتصادي فتشكل الأساس الواقعي الذي تقوم عليه مركبات عليا، فوقيات، حقوقية وسياسية فينشأ عنها وجدان مجتمعي معيّن”. (وهنا أيضاً ماركس لم يذكر عوامل تطور المقدرة المادية الإنتاجية، أليست القوى الروحية من علم ومعرفة وإبداع وثقافة وفكر هي من يطوّر المقدرة المادية الإنتاجية؟).

الفلسفة الماركسية المادية، أي النظرة الماركسية المادية للحياة، ترى القيمة والفعل باتجاه واحد: الفعل للمادة فقط أمّا الروح، الوجدان المجتمعي حسب التسمية الماركسية، فهي نتيجة وانعكاس للمادة وفوقيات ومركّبات عليا لا فعل لها ولا دور. أمّا سعادة فإنه ينظر الى الحياة نظرة مدرحية، أي يرى القيمة والفعل في اتجاهين إثنين وليس في اتجاه واحد فقط: المادة تفعل في الروح والروح تفعل في المادة. وقد وصف فلسفته وقال عنها أنها فلسفة التفاعل الموحِّد الجامع للقوى الإنسانية. والتفاعل هو الفعل المتبادل وليس الفعل باتجاه واحد.

سعادة اهتمّ بإبراز قيمة الروح لأن الفلسفات المادية المهيمنة في عصره، خاصّةً الشيوعية، كانت تنكر هذه القيمة، وأكثر ما كان محتاجاً للقيم الروحية هو شعبنا السوري الفاقد وجدانه القومي ووعيه وتنبهه لوحدة حياته ومصالحه ومصيره، الذي ضعفت نفسيته وثقافته وحضارته جراء خضوعه لعهود طويلة من الاحتلال والاستعباد. ولا شك أن عبارات الوجدان القومي والوعي والتنبه والنفسية والثقافة هي تعابير تدل على شؤون روحية لا تزان ولا تقاس ولا تُحَدّد في مكان وزمان معين، وسعادة أراد إبرازها وإحياءها وإعطاءها وظيفتها ودورها الكامل، وقد سمّاها “عوامل” وقد قال في ذلك:

“.. والحقيقة ان قومية السوريين وحصول الوجدان الحي لهذه القومية هما أمران ضروريان لكون سورية للسوريين، بل هما شرطان أوليان لمبدأ السيادة القومية وسيادة الشعب الشاعر بكيانه على نفسه وعلى وطنه الذي هو أساس حياته وعامل (مادي) أساسي في تكوين شخصيته”.

الوجدان القومي هو إذًا قيمة روحية لها دورها الأساسي وفعلها ووظيفتها التي لا يمكن الاستغناء عنها لكي يتمكن السوريون من أن يمارسوا سيادتهم على وطنهم وموارده (المادية) ويبنوا حياتهم ويؤمنوا مصالحهم وينالوا حقوقهم ويصونوا مصيرهم.

ثانياً: في أولوية القيم

من المعروف أنّ سعادة هو صاحب الثلاثية: الحق والخير والجمال. وسعادة هو أيضاً صاحب رباعية الحرية والواجب والنظام والقوة التي جعلها شعار الزوبعة القومية الاجتماعية. أمّا في مقالته الخالدة “الحق والحرية” فيشدد على ثنائية الحق والحرية ويقول:

“الحق والحرية هما قيمتان أساسيتان من قِيَم الإنسان- المجتمع، كل مجتمع يفقد هاتين القيمتين يفقد معنى الحياة السامي، الحياة بدون هاتين القيمتين عدم!”.

فهل للقيم أولوية وتفضيل؟

وماذا عن الوجدان القومي؟ ماذا عن الحقيقة والعدالة والكرامة؟ وماذا عن الوعي والمعرفة والعقل والفكر…الخ؟

يحق للواحد منّا أن يتساءل: لماذا الحق والحرية تحديدًا هما القيمتان الاساسيتان؟ ولماذا إذًا لم يجعل الحرية ضمن ثلاثية الحق والخير والجمال طالما هي قيمة أساسية والحياة بدونها عدم؟ بل لماذا لم يجعل قيمة الحق واحدة من شعارات الزوبعة طالما هي أساسية والحياة بدونها عدم؟ كيف ولماذا جمع وفرز هذه القيم مع بعضها وعن بعضها وما وجه الانسجام أو العلاقة بينها؟

إن الجواب على هذه الأسئلة هو أن للفلاسفة لغتهم وموحياتهم وفهمهم لأبعاد أفكارهم وطريقتهم في التعبير عنها. وإذا كنا نصر على فهمها فهمًا عاديًا، وليس فهمًا فلسفيًا (لأننا نحن بشر عاديون ولسنا فلاسفة)، فإننا قد نقع في الالتباس ونكون سذّجاً وسطحيين إذ نطلب من الفلاسفة أن يعلمونا لغتهم ويترجموها لنا بلغتنا، إن هذا غير ممكن. وهنا تنشأ أسئلة وجيهة من مثل: لماذا شعارات أطراف الزوبعة (حرية واجب نظام قوة) تبدأ بالحرية وليس بالنظام؟ ألا يجب أن يكون النظام قبل الحرية كي لا تصبح الحرية فوضوية؟ أليس نظام الفكر، أي العقيدة، هي الأساس ولها الأولوية؟ وأن الحرية والواجب والقوة هي لنصرة العقيدة؟ وغير ذلك من الأسئلة حول العبرة أو الغاية من تسلسل ترتيب هذه القيم والشعارات.

لنتفق على أن الزوبعة تدور، فهي متحركة وليست ثابتة، وبالتالي فإن القيم الأربع تتبادل الأولوية مع حركة الزوبعة. هذا عن الأولوية، أمّا عن احتلال هذه القيم الأربعة وحدها وليس غيرها لأطراف الزوبعة، فاعتقادي هو أن هذه القيم هي أهم ما يجب على أعضاء الحزب التمسك به في مسيرة صراعهم العملي لتحقيق غاية الحزب. إن هذه القيم هي أكثر ما ينقصنا وأكثر ما نحتاج إليه.