مازال انطون سعاده حاضراً في حركة النهضة من خلال فكره الرائد ومفاهيمه المتجددة ونهجه الثوري وخطته المناهضة للاستعمار والصهيونية والرجعية المتمثلة في القوى الطائفية- الاقطاعية – الرأسمالية.
مازال سعاده حاضراً لأنه باختصار امتلك معرفة الواقع الاجتماعي واستشرف المستقبل وتميز عن رجالات النهضة بأنه ألغى المسافة بين النظرية والتطبيق فكان قائداً وشهيدا لأنه مفكر عملي.
وفي أول مقال منشور له، بعمر ال 17 ، كانت كلماته «حتى الآن لم نر ما يدلنا على أن هنالك نهضة حقيقية نتفاءل بها وحتى الآن لم ينشأ سوى بعض أحزاب لخدمة الوطن لم تتجاوز خدمها إلقاء الخطب وإرسال البرقيات الاحتجاجية إلى جمعية الأمم، مما لا يجدي نفعاً إذ لم يكن هنالك أعمال وطنه».
] الاعمال الكاملة ج1 ص1[
ثم كرت سبحة كتاباته التي دلت على وعي مبكر بضرورة الوحدة القومية فنبه من أخطار التجزئة والتعصب الديني والمطامع الاستعمارية الاجنبية على أنواعها وأخطرها الصهيونية.
باكراً، أدرك سعاده الخطر الصهيوني. كان شاباً في السابعة عشرة من عمره عندما كتب في «الجريدة» التي يصدرها والده الدكتور خليل سعاده في سان باولو بتاريخ 1/10/1920 ما يلي: «إحدى هذه الويلات الآخذة في الحلول في الأراضي السورية كضيف ثقيل يضطر الساكنين إلى الرحيل، هي الصهيونية. فللصهيونية جمعيات وفروع في جميع اقطار المسكونة تعمل يدا واحدة لغاية واحدة وهي الاستيلاء على فلسطين وطرد سكانها السوريين منها…. يعضدهم في مشروعهم هذا أعظم دولة بحرية وجدت على وجه البسيطة إلى يومنا هذا.
[الاعمال الكاملة ج1 ص 11]
وهكذا منذ بدايته في الكتابة وعى سعاده حركة الصراع القومي والترابط العضوي بين العدو الداخلي المتمثل بالتعصب الديني والتجزئة القومية من جهة ومن جهة أخرى عدو خارجي متمثل بالاستعمار والصهيونية.
وبناء على هذه المعادلة أسس سعاده خطة المواجهة العملية التي تفرد بها تفكيراً وقيادة لشق طريق النهضة.
يقول سعاده في 1/10/1921: «يجب على السوريين، إذا كانوا يطمحون إلى الاستقلال والحرية كأمة حية، أن يتحدوا كالأمم الحية التي سبقتهم، فيعتمدون على افعالهم لا أقوالهم وعلى اتحادهم لا منازعاتهم وعلى أنفسهم لا غيرهم، لأن هذه هي الطريق الوحيدة إلى الحرية والاستقلال».
[الأعمال الكاملة ج1 ص 13]
استشرافه سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية
هذا التفكير العملي الذي اعتمده سعاده لإضرام «الثورة السورية» وتعبئة مكامن القوة في الأمة، لم يجرفه إلى اعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فقد ميز بين «السياسة الرجعية القائلة بإعداد القوة واتخاذها وسيلة لتنفيذ المطالب.
وهذا ما استشرفه سعاده في مقال نشره في المجلة بتاريخ 1/5/1924 تحت عنوان «سقوط الولايات المتحدة في عالم الإنسانية الأدبي».
وهذا المقال الذي يحاكي الراهن جاء فيه بأن الشرقيين عموماً فقدوا الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وبسائر الدول الغربية لأن الولايات المتحدة «لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستبداد..»
[الأعمال الكاملة ج1 ص 98]
لم يكتف سعاده بإدانة السياسة الأميركية لأنها أيدت وعد بلفور واستعمار سوريا وخيانتها لمبادئ الحرية والديمقراطية، بل أدانها أيضاً بسبب سياسة «القوة الحربية» التي تنتهجها للهيمنة على أميركا الوسطى والجنوبية وللتدخل في شؤون أوروبا التي تنهشها المنازعات والحروب.
[الأعمال الكاملة ج1 ص 298]
وهذا النزوع الإمبراطوري للولايات المتحدة بدأ يظهر بشكل واضح بعد أحداث 11 أيلول وقد كتب عنه الكثير في مقالات وكتب عديدة أبرزها «ما بعد الإمبراطورية» للمفكر إيمانويل تود.
استشرافه سير العالم الى الاشتراكية
وكما استشرف سعاده «سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي» استشرف أيضاً «أن العالم سائر إلى الاشتراكية بسرعة القطار المستعجل» وتوقع «انتشار المبادئ الاشتراكية انتشاراً عظيماً… لتخليص العالم من حروب المطامع والاهواء وإنقاذ الأمم من كابوس أصحاب رؤوس الأموال». وقد ميز سعاده بفكره الثاقب بين الاشتراكية التي أصبحت اليوم دين الحزانة والارقاء وبين تطبيقاتها الخاطئة فقال «لكن روسية لم تكن المثال الذي ينسج على منواله. بيد أنه إذا كانت روسية قد أساءت استعمال الاشتراكية، فليس ذلك دليلاً على فسادها ولا يحط من شأنها عند الذين فهموها وآمنوا بها…» وتوقع سعاده في حال انتصار «الاشتراكية المعتدلة» في أوروبا: «تغيير تاريخ العالم» وتحول أوروبا من حال التنازع والحروب إلى حال التفاهم على «المبادئ» وحل العقد والمشاكل».
[الاعمال الكاملة ج1 ص103]
ولتفادي الحرب العالمية الثانية التي توقع سعاده اندلاعها في مقال كتبه في «المجلة» بتاريخ 1/8/1924 دعا «أن توقع الدول الأوروبية كلها اتفاقاً اقتصاديا سياسيا عاماً….» ففي إمكان الدول الأوروبية كلها أن تتبارى في الشؤون الاقتصادية دون أن تلجأ إلى «امتلاك الاسواق التجارية في العالم بطرق غير اقتصادية… فأوروبا التي تحاول الآن أن توجد السلام، قد تتحول عن هذا القصد بعد حين إلى امتشاق الحسام والمناداة بالحرب».
[الاعمال الكاملة ج1ص117]
ولأن أوروبا غرقت في منازعاتها وعجزت يومها عن تحقيق اتحادها ولم تتمكن من حل خلافاتها ومشاكلها مما كان سببا في اندلاع الحرب وما توقعه سعاده في العام 1924 اندلع حرباً عالمية ثانية طاحنة بين العام 1939 -1945.
هكذا قرأ سعاده العلاقات الدولية على أنها صراع قومي على المصالح والموارد والنفوذ والمواقع الاستراتيجية، وليست كما يتوهم البعض اليوم بأنها «صراع حضارات» وهي مقولة هدفها تبرير حروب الهيمنة والتسلط التي تخوضها القومية الأميركية العدوانية التوسعية ضد مصالح القوميات الناهضة ذات البعد الانساني التي تناضل من أجل اثبات حقها وتحقيق سيادتها وحريتها ووحدتها والمحافظة على هويتها. إن مقولة صراع الحضارات تعكس في إحدى أوجهها مركزية الحضارة الغربية عامة والأميركية خاصة على حساب تهميش الحضارات القومية الأخرى وقد أدرك سعاده هذه الحقيقة وفضح النزعة الغربية العنصرية التي تدعي التفوق والمدنية «هذه الفلسفة التاريخية العقيمة التي أنتجتها أدمغة المؤرخين الغربيين المتعصبين… وغالى بعضهم في وصف «المواقف التاريخية» ….. لا ينتظر الشرق ولا يجب أن ينتظر انصافاً من الغرب أو من التاريخ الغربي القائل «أوروبة فوق الجميع» ….. فإن إطالة أجل الاستعمار يعني إطالة أجل الذل والعبودية والآلام الكثيرة.. وفعلياً، نجحت ثورات عديدة في الشرق والتي عرفت فيما بعد بحركات التحرر القومي في العالم الثالث. وقد نالت عدة دول استقلالها كما أخفقت أخرى، وما زال الشرق حتى اليوم مدعو إلى قيام جبهته العريضة التي عرفت يوماً بـ «دول عدم الانحياز» وهي اليوم تعبر عن رفضها للهيمنة الأميركية بأشكال مختلفة، وما زالت تصارع من أجل تحقيق حريتها واستقلالها ووحدتها القومية تمهيداً لقيام حركة مناهضة العولمة والصهيونية ومختلف أشكال العنصرية والهيمنة، التي كما يقول سعاده متى «شبت الثورة الشرقية الكبرى المنتظرة ابتدأ تاريخ جديد غير التاريخ القديم البالي».
[الأعمال الكاملة، ج1، ص 199، «ثورة الشرق» المجلة 1/7/1925]
إن حركة التاريخ كما فهمها سعاده من خلال استقرائه للعلاقات الدولية والتنازع بين الأمم على المصالح، هي حركة يسيرها الصراع باتجاه تطور إنساني متجدد ومستمر لا نهاية له، كما يحاول أن يصور فوكو ياما بنظرية فوقية تريد اقفال التاريخ على الحقبة الأميركية.
التاريخ هو حركة صراع، والعامل الحاسم في مساره هي القوة. ومقولة الصراع لدى سعاده عندها ابعاد متنوعة أبرزها صراع الانسان مع الطبيعة، صراع الإنسان مع الإنسان، صراع قومي بين أمة وأمة، صراع من أجل تحقيق القيم ومسائل المثل العليا.
أما القوة فهي من جهة «وسيلة لتنفيذ المصالح والمطامع» كما هي من جهة أخرى أداة تستعمل «لتأييد الحق والحرية والعدل».
وحتى تمتلك الأمة مكامن القوة في عملية الصراع يتوجب عليها أن تستفيد من دروس الحروب «فتنفض عنها غبار الخمول وتسارع إلى تغيير الأساليب القديمة التي أفسدت حياتها الفكرية، وتعمد إلى الاعتماد على نفسها، والانتباه إلى علمائها ومفكريها والاهتداء بنور علمهم وهداية تفكيرهم» وفي المجال نفسه ركز سعاده على «القوة الفكرية» و«أهمية الصحافة» والمسؤولية الملقاة على طبقتها المتنورة…. على خدمة التنوير الفكري».
[الأعمال الكاملة ج1 ص412 المجلة 1/2/1933]
وهكذا أيضاً استشرف سعاده بأن القوة هي القول الفصل في عملية الصراع، وبان القوة لم تعد مقتصرة على الجوانب المادية من اقتصادية وعسكرية وغيرها، بل اصبحت تشمل قوة الفكر والعلم والمعرفة.
ويوم كان معظم رواد النهضة ورجال الفكر والثقافة غارقين في الخطب الرنانة والنظريات والقاء المواعظ عرف سعاده كيف يكون ردا على عهود الانحطاط والجهل والتخاذل وهكذا عرف من أين يبدأ ومن اين تنطلق النهضة وحركة التغيير فقال في مقال نشره في «المجلة» بتاريخ 1/4/1933 ما يلي: «وأول ما يجب أن نبدأ به هو أن نحول التفكير النظري، الذي لا يحقق شيئا بذاته إلى تفكير عملي يدفعنا الى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه …. العمل للخير العام في ظل السلام والحرية…. أقول تفكير عملي مجموعي لأجعل منه ما يقابل التفكير العملي الفردي» ثم دعا الشبيبة السورية «أن تبتدئ في العمل الاصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي..»
[الاعمال الكاملة ج1ص39]
وكم نحن اليوم بحاجة الى تجسيد هذا «التفكير العملي المجموعي» بديلاً عن المواعظ الرنانة البعيدة عن حركة الصراع، وبديلاً عن المكاسب الانانية والاداء الشخصاني.
هذه باختصار بعض معالم استشرافات سعاده وحصرتها بكتاباته الاولى ما قبل تأسيس الحزب ما بين 1921-1933، والتي تجعل منه مفكراً عملياً بامتياز صاحب رؤية مازالت واقعية اليوم ومنارة للغد.