حتى لا يتحول تموز الى مبكى

حتى لا يتحول تموز الى مبكى

تموز في أبسط مظهره وعمقه، هو جرح كليم قاس. والجرح بطبعه توأمه المشاعر. يؤلمها، يحز فيها، يمزق أحشائها. إنها محطة متعددة الأبعاد. إنها مؤامرة مثبتة، جريمة موصوفة، إعدام ميداني، وقتل متعمد مع كل ما رافق الجريمة من امتهان للكرامة وظلم موصوف. ومن البديهي جدا، هذا المنسوب العالي من الدفق العاطفي والنفسي، المتحد بالشعور بالعجز، فالقوميون لم يستطيعوا ان يفعلوا أي شيء لإيقاف هذه الجريمة او تخليص الزعيم من هذا المشهد فوقفوا ينضحون بوجدانهم. اذاّ نحن أمام اعتداء على الحزب، وملاحقته، ومطاردة سعاده، واعتقالات، ومداهمات، وخيانة ونكس وعود شرف، وتسليمه، ومحاولة تصفيته قبل وصوله.  محاكمة هزلية، أقصر فترة زمنية لإصدار الحكم ورفض لجنة العفو، وتنفيذ الاغتيال في أقل من يوم. كل ذلك ترافق مع تنكيل نفسي به ومنعه من مقابلة عائلته ومن الكتابة، تقييده وربط عينيه. كان موقفه مشرفا دون شك.
 كل هذا المشهد، جعل النتاج الفكري بعد سعاده من شعر من أدب وتأريخ الحدث ومسرح وفنون مقيداّ في هذه الحدود. إن مشهدأّ دراميا وتراجيديا مأسويا إحتل النص وأقفل عليه في هذه الدائرة. اذاّ نحن أمام مشهدي البطولة والخيانة.
  وقد يكون موروثنا الثقافي النفسي الروحي عاملا مساعدا لإنتاج هذا النمط من التفاعل، فالإله تموز يموت وعشتار تبكيه وبحرارة كي يعود الى الحياة، فيستجيب الاله ويعود تموز منبعثا من الموت الى الحياة. في هذه المرحلة يدخل الشعب في عملية الحزن والبكاء والنواح في طقوس وشعائر لا تنتهي الا بعودة الحياة والانتقال الى طقوس الفرح وشعائره.  وترجمتها عودة الاله القتيل الى الحياة. هنا نحن أمام انتظار عودة الاله الى الحياة بعامل البكاء عليه وعامل الزمن. ما يوجب تثبيته أنه انتفى الفعل والإرادة وأصبح الدور الوحيد هو البكاء وانتظار انتهاء دور الموت بعامل الزمن انها رحلة الانتظار المحكومة بالإيمان.  
أقول ذلك لأشير الى الاستعداد الطبيعي لدى شعبنا للبكاء على الاله القتيل في الرافدين وكنعان والتي كانت يجب ان تنتهي مع الدورة المتجددة للأمة، ففيها لم يعد الاله هو الذي المخلص من الويل، فالأمة هي التي تقود معركة خلاصها بنفسها. تنهض وتقاتل وتخوض صراعها ضد التنين. أقول ذلك لأدل على أن عامل الحزن قد انتهى، والخلاص الجديد عامله الفعل والإرادة، وهذه نقطة حاسمة أضافتها القومية الاجتماعية في المرحلة المتجددة من حياة الامة، أي القومية الاجتماعية. لم يعد للحزن والبكاء حيز في ثقافتنا. هذه مسألة يفترض ان تكون محسومة.
وقد زاد في هذا الشأن دفعا ّ، رواية سعيد تقي الدين حدثني الكاهن الذي عرفه، فاستحضر مناخا دراميا كاملا بشكل مسرحي، منتقيا المفردات التي تثير السخط والحزن. فمفردات رنين الرفوش والحفرة والأشلاء والتابوت الخشبي وغيرها، أضفت كلها على المشهد كثيرا من المؤثرات النفسية. في نص سعيد تقي الدين أيضا فتح مهم لباب الفكر لمواكبة الحدث محملا على لسان سعاده: “أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيئ انتصارهم انتقاما لموتي”. إذا هنا يكمن الاشتباك الحقيقي بين نص موت البطل وانتصار القضية. لم يكن 8تموز اعداما لسعادة، بل كان لمشروع أمة نهضت وأعدت الانتصار.

ولكن ما لبث القوميون مع أول فصول المشهد ان علقوا فيما نسبوه لسعادة ان “موتي شرط لانتصار قضيتي”، ويبدأ القوميين بترداد هذا النص دون أي مراجعة عقلية. والسؤال هل صحيح أن موت الزعيم كان شرطا لانتصار القضية؟ او ان أكبر نكسة تعرضت لها القضية هي موت زعميها ومؤسسها وقدوتها؟  ولو تأخر موت سعاده كيف ستكون حال النهضة؟ من اللحظة الأولى التي وطئ فيها سعاده أرض الوطن عام 1947 والقى خطاب العودة، كان يعلم ان حربه قد أعلنت وأقل خطر فيها حياته، وعندما أعلن ان الحزب يخرج ضباطا وجهتم المعركة، هل كان سعاده قاصرا عن رؤية هذا المشهد؟ فهل يمكن ان نتصور ان معركة بحجم التي فتحها سعاده على كل الجبهات قد لا يكون على رأس احتمالاتها استشهاد زعيمها؟
    ما اردت قوله إنه بعد عقود من الزمن، كان من المفترض ان يتراجع التفاعل العاطفي النفسي مع الحدث، المبرر في حينه كحالة صدمة، كفاجعة لفقدان الزعيم وحالة الضياع البديهية، لكن نص تموز لم يستطع القفز فوق العاطفة فعلق في خطابي البطولة والجريمة. وما يمكن اضافته ان خطاب تموز الغائب هو خطاب الثورة فيقفز القوميين عن نص الثورة القومية بأسسها الفكرية والنضالية دون مبرر. حيث اتخذت النهضة مبادرة الانقضاض على النظام اللانهضوي الرجعي، والتي كانت الثورة وجهة حتمية لدكه كاملاّ وإقامة نظام جديد. ربما كانت الثورة تحتاج لمزيد من التحضير، والتعمق في سياقها وظروفها شأن واجب، كل هذه المسائل بحاجة لأن تدرس وتناقش. المهم ان تموز أطلق الثورة، وأرسى مضامينها الفكرية-السياسية –الاقتصادية-الاجتماعية ومن أهدافها اسقاط الأنظمة والكيانات السياسية خليفة الاستعمار المؤسسة على أسس مخالفة لدورة حياة الامة ومصالحها. الثورة هي تتويج العقيدة والحركة في الحيز القومي. وعليه الا تستحق هذ الثورة اعادة قراءة معمقة في سيرورة القضية؟ فالثورة القومية هي من نتاج تموز مثلا والملفت أنه قد غاب عن معظم نصوص تموز كل الثورة وأسسها ومضامينها وفعل التغيير.

لذلك أقول انه قد آن الأوان لننتج قراءة جديدة هي تموز القضية. فتموز هو محطة، او فصل قاسي جدا، او حلقة، او دورة، من محطات قضية أمة وحزب تعمل وتصارع لتنتصر. والتعامل الجديد معها على أساس الفعل والإرادة بدل النمط العاطفي-النفسي.

وكيل عميد الثقافة