الزّعيم لغويًّا هو من فعل زَعُمَ أو زَعَمَ. فيقال زَعُمَ زَعامة أي ساد ورَأسَ. زعُم بفلان/ زعُم لفلان: صار كفيلاً به، وضامِنًا له. ويقال زَعَمَ زَعْمًا: ظنَّ، واعتقدَ، وقال ووَعَدَ. وزَعِمَ تعني طمِع. والزّعيم هو السيّد – الرئيس -الضّامن – الكفيل – مرجع القوم – الناطق باسم الجماعة – رتبة عسكريّة مرادفة للكولونيل. وحسب قاموس محيط المحيط، زعيم القوم سيّدهم ورئيسهم أو المتكلّم عنهم. من هذه الكلمات، نستنتج انّ الزعيم يمثل مركزا مهمًّا ومنزلة رفيعة ومكانة مرموقة.
وفي قاموسنا القوميّ الاجتماعيّ، الزّعيم هو التعبير الأوفى والأصفى عن حقيقة الأمّة وشخصيّتها ومثلها. هو من كشف عن هذه الحقيقة وعيّنها وضبطها، بالاستناد إلى العلوم الانسانيّة، وجسّدها بنظرته الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ، وقدّمها للأمّة لتعي ذاتها وليفهمها العالم بأسره. بناءً على ذلك، إنّه رسول هذه الحقيقة والناطق الأصليّ باسمها والمعبّر الأوفى عن مراد الأمّة وتطلّعاتها في الحياة والارتقاء. وهو صوت وجدانها والمعبّر عن حقّها ومصلحتها وإرادتها العامّة بالمبادىء الجديدة الواضحة الّتي وضعها، وبالحركة التي أطلقها لحمل هذه المبادىء والانتصار بها في صميم الشّعب. لذلك قال: “إنّ انطون سعاده لا يعني فقط انطون سعاده بل يعني مبادىء نهوض الأمة وتبوّئها مقام الشرف والعزّ.”[1]
إذاً، الزعامة الكامنة في صميم الرسالة القومية الاجتماعية ونظرتها إلى الحياة والكون والفن، والتي شكّلت الحدث الأجمل والأكثر اشراقًا في تاريخنا الحديث، هي مرادفة لشخصيّة حقيقيّة، متفوّقة، ومتميّزة بيقينها وإدراكها العالي ووضوح أفكارها وبإرادتها القويّة وعزمها الأكيد.. شخصيّة عبقريّة وغنيّة غنى كبير بالعوامل النفسيّة “لا يمكن تقليدها أو الخلط بينها وبين غيرها ولا يمكن استبدال غيرها بها.”[2] هذه الزّعامة – الشخصيّة الأصليّة المتولِّدة من صميم عظَمة الأمّة السّوريّة المعطاء، لم تنته باستشهادها على رمال بيروت وسقوط جسدها، بل هي مستمرة باستمرار حياة الأمّة لأنّ حقيقتها قد فرضت نفسها على الوجود.
هذه الزّعامة السّوريّة هي قيمة سامية وفكرة فريدة من نوعها لأنّها وقفت نفسها على حياة الأمّة ورقيّها وأقسمت يمين الحقّ غير شاعرةٍ بأنّها تقدّم منّة للأمةِّ بل تشعُرُ بأنّها تعطي الأمّةَ ما يخصّها من خيرٍ وطموحٍ وعظمةٍ لأن كُلَ ما فينا من الأمّةِ وكُلَّ ما فينا هو لِلأمّة.. هي فكرة حيّة ممتّدة في جسم المجتمع بلا حدود ومتجسّدة بالمبادىء الجديدة أي بالعقيدة المحيّية المكوّنة لقضيّة الأمّة والوطن. وما تعاقدنا الإرادي – الوجدانيّ مع الزعيم، إلا تعاقدًا على هذه القضية المقدّسة الّتي تساوي وجودنا. هذا التعاقد العقلاني الوثيق مع سعاده لم ينتهِ بغياب سعاده الجسديّ، بل هو مستمرّ لأنّ سعاده باق بفكره وعقيدته وخالد بخلود الحياة السّوريّة.
الزّعامة القومية لم تأتِ بداعي التمثيل لسلطةٍ روحيّة-غيبيّة أو لسلطةٍ مادّيّةٍ نافذةٍ أو بحكم الوراثة، ولم تكن وليدةَ الإراداتِ الأجنبيةِ، بل هي فكرة أصليّة، جديدة، منبثقة من صميم عظمة الأمّة السّوريّة ومن نتاج عبقريّتها ونفسيّتها. هي تعبيرٌ عن الأمال الكبيرة العالقة بها أنفس ملايين البشر وعن إرادة أمّة ستعود إلى الحياة وتثب للمجد والفلاح.
والزّعامة القوميّة هي فكر جديد قويم ونظرات عميقة، لا ترى الأمّة جماعات متنافرة ومتباينة، بل مجتمعًا واحدًا، وهيئة إجتماعيّة مدركة وموحّدة المصالح والمصير. بفضل هذا التفكير الجديد، انجذبت أجيال الأمّة إلى الزّعيم وانقادت إلى تفكيره انقيادًا إراديًا ليس فيه إكراه وسارت وراءه مختارةً ومقتنعةً بمبادِئِه المفعمةِ بقيم الحقّ والخير والجمال، وصارت صفوفًا منظّمة من آلاف السّوريّين، معلنة ولاءَها وتأييدها لزعيم الأمّة الأوحد المعبّر الأوفى عن حقيقتها ومثلها وتطلّعاتها.
الزّعامة السورية هي نفسيّة عميقة، جميلة، وغنيّة بالرغائب العالية، والمقاصد النّبيلة.. هي روح كبيرة متفانية تمثّلت روح الأمّة فيها فامتلأت حبًا وإخلاصًا وجمالًا ورؤًى. وهي إرادة قويّة وهمّة عالية وبطولة مؤمنة حكيمة، هي دليل قوّة الأمّة وعنوان حيويّتها وجمال نفسيّتها.
الزّعامة السورية هي نفسٌ أبيّةٌ كبيرة وعقل جبّار عظيم اختصرَ تاريخَ أمّة حافلًا بالبطولات واندَمَجت فيه عقولها مجتمعة فرأت هذه الأمة نفسها في عقل الزّعيم وروحه وأخلاقه. والزّعامة السّوريّة هي محبّة صافية وإخلاص عميق وصراحة نقيّة وإيمان كبير.. هي اليقين والوضوح والصّدق والنزاهة والصّبر والثبات وهي التّضحية والجرأة والإقدام والرجولة الحقّة التي مشت في الحقّ، ودعت إليه، وشقّتِ الطريق لتحيا الأمّة ولتسير نحو مثالها الأعلى!
الزّعامة السّورية هي سموّ وتضحية وواجب ووفاء وتوق للحرّيّة والتّفوّق والإبداع. هي دعوة للنّهوض ولانبعاث الأمّة من الجمود والموت وعودتها إلى الحياة، إلى وجدانها ومعرفتها، إلى بناء نفسها في نهضة شاملة ليعود دورها الحضاريّ والانسانيّ فاعلًا في الوجود.. وهي تجدّد الأمل بقدرة هذه الأمة ومواهبها، وبقيمها وعظمتها، وبمستقبلها الجميل.. بحياة حرّة راقية مشّعة بالخير والحقّ والنّور والجمال.
الزّعامة السّوريّة غير محدودة بفترة زمنية تمتد من أول آذار وتنتهي في الثّامن من تموز، بل هي عهد جديد وهداية مستمرّة كفعل إشعاع لا يخبو ولا ينطفىء وستبقى حاضرة في الأجيال الّتي لم تولدْ بعد. هذه الفكرة تُجسِّدُ حضور الزعيم الدّائم بدوام العقيدة واستمرارها على مرّ العقود والسّنين والأجيال.
وهذه الزّعامة القوميّة هي ليست رتبة أو لقب مكتسب. وهي ليست وظيفة أو مسؤوليّة حزبيّة أو هيئة إداريّة، بل هي حقيقة حيّة لا تموت.. هي روحيّة جديدة تجمع شتات الأمّة وأفرادها وتوّحد قلوبهم وأفكارهم، وتوجّه قواهم في إرادة واحدة وعمل منظّم واحد نحو غايات الأمّة العظيمة. هذه الحقيقة المتجسّدة بسعاده-الفكر، والمناقب الجديدة، “باتت للجميع، للمؤمنين به ولخصومه – بحسب قول الشاعر والأديب محمد يوسف حمود- كما هو الهواء للجميع، كما هي الشمس للجميع.”
*رئيس الندوة الثقافية المركزية
[1] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السابع 1944 – 1947، “حديث الزعيم إلى مجلة “الكوكب”، الشمس، بيروت، العدد 290، 20/08/1947.
[2] أنطون سعاده، “عيب الحزب السّوريّ القوميّ”، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 31، 1/11/1941