غزة، القضية والرقم الصعب في تاريخ الانسانية، ماذا بعد أن غرقت دساتير المجتمع الدولي مع الطوفان

ما أصعب الارتباك ونحن نحاول أن ننجو بالأحبة …
في غزة كانت وما زالت “عجقة” العيون الحائرة… نظرات ملبكة باكية مستشعرة لخبر فقد يقترب… وثقيلة هي خطاه…. فكل ما حولها ينبئ بذلك… لا وصف كاف لما كان وما يزال… فعيونكم حكت كل شيء من أول صورة …
يقال إن الحروب تفجر أجمل وأبشع الأحاسيس… لكن في غزة تفجر كل شيء جميل… تفجر البيت الدافئ… الحي المكتظ بسكانه والمفعم بالحياة، المدرسة الجميلة العاجة بالأطفال…الاطفال نفسهم وفيض من طهارة المشاعر والأحاسيس…
ذاك كان حالكم أهل غزة، أما حالنا ونحن شهود ومشاهدين فرددنا كثيرا بأننا “نكاد من فرط عجزنا أن نعتذر لكم عن بقائنا على قيد الحياة” وكنا نردد ونحن نخسر ونخسر من ذلك الزاد فينا. نخسر من أنفسنا وروحنا ونحن مجبرين على أن نشهد ابادة جماعية ترتكب بحق شعبنا. نعم، اجبرنا كل يوم على أن نشاهدكم “شهداء مع فارق التوقيت” كما وصف الصحافي سلمان بشر نفسه مع أهل غزة وهو يتخلى عن السترة الواقية وخوذة الصحافة على الهواء مباشرة والتي باتت لا تجديه نفعا في رد الأذى أمام وحشية العدو التي تخطت كل الحدود وتحدت كل الخطوط بكافة ألوانها…
لم يكن الاعتذار عن البقاء على قيد الحياة جملة شعرية. لا، فمعظمنا فقد الرغبة في عمل أي شيء، وحل احباطا مجتمعيا لم يسبق له مثيل. ولم يخفف من ذلك الاحباط إلا صور البطولات التي تزاحمت بها غزة على كل الأصعدة: الصمود، التشبث بالأرض، المقاومة رغم وداع فلذات الأكباد والمحاصرة بأشلاء الأحبة، وشجاعة الطواقم الطبية والصحافة، لشعب يحب الحياة ويقاتل من أجلها. وهذه صور تفرض نفسها وتفرض تعدادها وتكرارها ولو أننا حفظنا مشاهدها عن ظهر قلب، اذ لا بد للكاتب من أن يستهل كتابة مقاله بها اجلالا لها، ولا بد لمقام المقاومين من أن يحتل صدارة المقال…
اذن، حضرت بموازاة تلك الصور وبقوة شديدة، مساءلة المجتمع الدولي، أقلها في الأذهان. وبادئ ذي بدء، وعند أي خلل يساءل “أب الرعية”، إذا صح التعبير بلغة وروحية الرعاية العالمية الدولية لذا تكون المساءلة. ما حدث في غزة هو ابادة جماعية بكل المقاييس الانسانية والأخلاقية وللأسف بمقاييس الجهات الحامية لحقوق الانسان من المجتمع الدولي، وبحسب الأدبيات الصادرة عنها على الأقل، ولكن بعكس الممارسات على أرض الواقع والتي كشفت ازدواجية المعايير. مثال على ذلك أداء الولايات المتحدة في مجلس الأمن خلال حرب غزة الذي ساعد اسرائيل على متابعة عدوانها.
نلحظ هنا المفارقة في كيفية تعامل المجتمع الدولي مع جائحة كورونا لجهة الاستنهاض الكوني للمسؤولية المجتمعية لمجابهة فيروس يفتك بالجسد، مقابل الابادة الجماعية في غزة التي فتكت بالأجساد والأرواح معا. وكانت حصيلة جائحة كورونا حول العالم 7,010,681 ملايين قضوا في ظروف أصعبها هو أهين ألف مرة مما هي عليه الحال في غزة. بينما حصيلة حرب غزة حتى تاريخه هي 36,379 شهيدا و7,000 مفقود اضافة الى84,094 جريحا في بقعة جغرافية مساحتها 5,660 كلم مربع ، أي بنسبة غاية في التفاوت بين حصيلة الجائحة وحصيلة الحرب. غاب استنهاض المجتمع الدولي للمسؤولية الكونية بالنسبة لغزة، لكن غزة بنفسها كانت مصدرا “لاستنهاض القيم” وولدت ثورة عارمة في شوارع العالم….
ان ذلك يستدعي قراءة جدية في آلية مساهمة المجتمع الدولي في تحويل الأفراد الى شركاء في الجريمة المجتمعية في مقابل مفهوم المسؤولية المجتمعية، ومجابهة المجتمع الدولي بذلك، ورفض الشراكة في الجريمة التي تتشكل من خلال الآلية المذكورة أدناه:
التعزيز الدائم للتالي:
القوانين والضوابط التي تواكب سمو الحس الانساني وتهيئ الإطار النظري لتعزيزه ورعايته. مثال حقوق الانسان وحقوق الطفل كما في الاتفاقيات الصادرة عن الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات العريقة في هذا المجال. ويحضرنا هنا ما هو مضحك مبك في آن وهو نص صديق للطفل أو نسخة الأطفال عن اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة الموجودة على موقع مؤسسة اليونيسيف الذي لا يستطيع طفل غزة الافادة منه بكافة أشكاله، ولكنه لا يملك الا أن يعول على قراءة أطفال آخرين تقرب من فهمهم لما يعاني هو ليحفظ ذلك في ذاكرتهم!
قوانين جديدة تعمل على جعل الفرد شريكا في “المسؤولية المجتمعية”، هذا التعبير أو المصطلح الذي بدأ يتبلور منذ العام 2000 والذي يهدف الى بناء مجتمع المسؤولية المجتمعية من خلال قطاعات عدة أحدها هو القطاع الأهلي أو مؤسسات المجتمع المدني.
في مقابل:
دول تقوم بسلب الناس كل حقوقهم وتخرق كل القوانين ودولة اسرائيل هي أفضل مثال على ذلك.
دول لا تتشارك القرار، بل تنفرد به وتمارس ازدواجية المعايير، مثال: الفيتو من قبل الولايات المتحدة على قرار مجلس الأمن في الثامن من كانون الأول 2023 الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، والذي شجع إسرائيل على مواصلة جرائمها ضد الشعب الفلسطيني.
هكذا تحولت الشراكة في المسؤولية المجتمعية الى شراكة في الجريمة المجتمعية، إذ غاب عن بعض الدول بأنها خلال ظلمها تورط معها جمهورها في العالم الذي “ربّته” على ألا يقبل الظلم. فالدول التي كانت تشرع القوانين التي تهذب وتسمو بالحس الانساني عادت ودفعت به الى أسفل فكان كزهرية زجاجية أثرية “حطها السيل من عل” وتطايرت أجزائها تجرّح في صفحات كتاب تاريخ ينتظر في أسفل المنحدر.
على مر العصور وعلى مر الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني خلال مقاومته لاستعادة أرضه، كان هناك حروب عدة. لكن حرب غزة هذه المرة مختلفة، فماذا يميز هذه الحرب؟
نشير هنا الى خطأين استراتيجيين ارتكبهما العدو وهما ليسا آنيين: الأول الحصار المستمر لغزة منذ
منذ الغام 2006 والذي هيأ لآلية خاصة أججت وظلت تعيد انتاج حالة المقاومة. والثاني يتمثل في تقديم الكيان الصهيوني السلاح نفسه، الذي “عاش عليه عمره كله” مستخدما اياه في استعطاف المجتمع الدولي على مر السنين، وهو سردية الابادة الجماعية. وهذه المرة هي بحق الشعب الفلسطيني وهي سوف تستقر في ذاكرة الشعوب لأجيال طويلة.
توفر لخدمة الخطأ الثاني وسائل الاعلام بكافة أنواعها وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي نشرت ما نقلته عدسات الصحفيين الشجعان من صوت وصورة فدليل الادانة بالصوت والصورة: صوت الانفجار وصورة الألم. وإذا كان الخطأ الأول هو غباء في التخطيط الاستراتيجي فان الخطأ الثاني ليس غباء بقدر ما هو عدم قدرة على التحكم بمشاعر الكراهية، اذ أن الكيانات التي تقوم على الحقد تفضح نفسها بنفسها لأنها مهما حاولت توخي الحكمة في إدارة الصراع (ولو بشكل نسبي)، لا بد من أن يكون لها فعلا آنيا غير محسوب يكشف عنصريتها ويقدمها بأقصى تجلياتها.
بناء على ذلك، كيف تكون سبل ما يمكن أن يكون من تفعيل للمواجهة على الصعيد الثقافي والحقوقي وبالأخص الجبهات المؤثرة في الغرب؟
يشير هذا المقال الى السبل التالية:
تفعيل صياغة المفاهيم التي يراد الافادة منها ومأسستها وبالتالي اعطائها شرعية ضمن مؤسسة فاعلة، والمقارعة عبرها في المحافل الدولية، وبالأخص المفاهيم الندية لتلك التي يستفيد منها الغرب من خلال المؤسسات. أنظر مثلا في مفهوم “الأضرار الجانبية” collateral damage. ان استخدام مصطلح الأضرار الجانبية “هو تعبير ملطف للضحايا المدنيين، دخل حيز الاستخدام خلال حرب فيتنام. وعلى مدى عدة عقود أصبح راسخا في لغة القوات المسلحة الأمريكي. وظهر تباعا مفهوم ضبط الأضرار الجانبية والذي برز في نقاشات كثيرة خلال حرب غزة وما هو، في حقيقته (أي مفهوم ضبط الأضرار الجانبية)، الا أمر غريب يمكن أن يختصر في “محاولة لتوخي العدل في قلب الظلم”!! مثال عن المفاهيم التي يمكن صقلها ومأسستها بعد حرب غزة هو مفهوم رفض انطلاقا منه على محاور عدة. خلال الأشهر الماضية دارت نقاشات كثيرة حول حرب المصطلحات التي رافقت الحرب على الأرض، لذلك فإن المؤسسة هي الترجمة العملية لمحاربة المفاهيم المغلوطة وهناك ضرورة للإفادة من هذه الأداة (أي المؤسسة) التي تنقل النقاش الفكري الى المجال العملي في هذا الصراع.

التسويق الدائم للمفاهيم التي برزت في حرب غزة ونشر ثقافتها وتقديمها بكونها “على طريقة غزة” “The Gaza Way” بأي وسيلة وفي كل المناسبات، وأهمها الولاء للمجتمع المحلي Loyalty to the Community الذي تجلى خلال العدوان على غزة بأجمل صوره، وهو مفهوم تتغنى به المجتمعات الغربية الواجبات. ولا بد هنا من أن نذكّر بما روته الممرضة الأميركيةEmily Callahan، مديرة نشاط لمنظمة “أطباء بلا حدود” في غزة، عن تجربتها المعاشة فيها والتي بعد مغادرتها لغزة ورغم وأفاضت الممرضة الأمريكية في الحديث عن مدى ولاء أهل غزة لمجتمعهم وكيف أن أفرادا من المجتمع المحلي كانوا السبب في نجاتها من الموت والجوع وفي قدرتها على الخروج من غزة. وأفادت أن أفراد الطاقم الطبي المحلي رفضوا الاخلاء والنزوح داخل غزة وبأنهم لم يقبلوا ترك مجتمعهم، أهلهم، وأصدقاءهم، وأن اجابتهم على تساؤل الممرضة حول ذلك كانت “إذا أرادوا قتلنا فسنموت ونحن نحاول انقاذ ما نستطيع انقاذه من الأرواح”. مثال آخر عن الولاء في مهنة الطب هو الطبيب عدنان البرش، أشهر الجراحين ورئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء بغزة، الذي توفي في سجن عوفر الإسرائيلي، بعد أكثر من أربعة أشهر من اعتقاله أثناء عمله مع مجموعة من الأطباء في مستشفى العودة، شمالي غزة والشهادات على براعته والتزامه في ظل الظروف الصعبة اللذين لم يسبق لهما مثيلا هي كثيرة. لذلك و”على طريقة غزة” يضرب المثال عن ولاء الأطباء ويروج له من خلال كلمات في احتفالات تخريج الأطباء حيث أمكن، ففي “طريقة غزة” نموذجا عاليا من الالتزام والبراعة والقدرة على الاحتمال لطبيب مثالي هو مسعى المؤسسات الأكاديمية في مجال الطب، كما أنه من المهم الاستثمار في ذلك النموذج “إذا استطعنا الى ذلك سبيلا” لتطعيم المواد الأكاديمية به (أي النموذج) ليدرس للجيل الجديد من الأطباء وليرافق هذه المهنية الانسانية على الرغم من أن المحاربات في المجال الأكاديمي كثيرة والتدخل من خلاله ليس بالأمر الهين.
غزة تزدحم بالمفاهيم السامية التي لا يمكن أن ننتهي من تعدادها والتي يمكن استثمارها في عمل مؤسساتي. الطريقة التي تمت بها معاملة الأسرى، معنى الأمومة في غزة، معنى حياة المرأة في غزة، شريكة النضال، مربية الأجيال والفاقدة لهم، المرأة الحاملة لجنين بطل شهيد في ظروف الحرب دون متابعة لوضعها الصحي والنفسي وغير ذلك الكثير.
الاستثمار في التعاطف العالمي الذي حدث مع القضية الفلسطينية والعمل على نشر التراث الشعبي الفلسطيني بشكل أوسع في المسارح العالمية، إذ أن ” لدولة فلسطين – العضو بمنظمة اليونسكو- 3 عناصر مدرجة على لائحة التراث الثقافي (الحي) غير المادي، هي الحكاية والتطريز والدبكة”. يتم ذلك من خلال الاستمرار في تجديد المادة في هذا التراث وتطعيمها بمشاهد الابادة الجماعية في غزة للمحافظة على الذاكرة العالمية تجاه القضية ومكاسب التأييد لها.
سؤال حالي يطرح نفسه. ماذا بعد حالة الضياع التي وصلت اليها قوانين المجتمع الدولي؟ والخطر يكمن في أن التاريخ يجدد اشعال قضية كبيرة بحجم فلسطين بينما القوانين الدولية مهزومة، لم يترك لها مجالا حتى لحفظ ماء الوجه. وبينما ينهار نموذج القوانين الدولية ويثبت عدم فعاليته، تبرز فاعلية نموذج آخر على الأرض. فهذا المنتج، وهو آلية المقاومة في غزة، امتلك ايديولوجيا اجتاحت العالم عن طريق انجازات وانتصارات تتمثل كل يوم بالخسائر التي يتكبدها العدو الاسرائيلي، حيث قدمت الدليل على فعاليتها مسبقا ولم تحتج لأن تنتظر دهورا لإثباتها (أي فعاليتها) وبالتالي كسبت “شرعية” خاصة ومناصرين لها. وهذه الايديولوجيا لها دساتيرها الخاصة، يعامل من خلالها أسرى العدو بكل رقي وتحضر، والقائدلديها “مثله مثل أهل غزة” …. لذا ظلت أنفاق تحت الأرض بشرائعها ودساتيرها الخاصة، تسمو وتسمو لتصبح “المدينة الفاضلة” تحت الأرض، على الأرض، وفي فضاء العالم.
نهاية، شكرا غزة لوجودك في حياتنا، فربما كانت انسانيتنا في هذا الزمن في حاجة لقضية بحجمك “تستنهض القيم” وتعيدها الى صوابها في ضمائر الكثيرين على الرغم من قساوة الحرب عليك وانفطار القلوب لها. شكرا لأنك أعطيتنا عمرا جديدا نعيشه في زمن فيه غزة العزة، القلب النابض بقضية الأمة: فلسطين وحرب تحريرها، فحرب تحرير فلسطين قد بدأت من غزة وما يحدث هو عدد جولات فقط.