ليس بلا معنى أن يترافق شهر تموز بثوراته وشهدائه مع الدلالة الأسطورية التموزية في التراث السوري القديم لسوريا الطبيعية وبلاد الرافدين، فالتموزية مرتبطة بدلالة الاستشهاد القرباني والدم المتماهي مع المطر والانبعاث الدوري، وذلك بدءا بالتمثلات التموزية مرورا بوقائع تاريخية للابن المقدس، المسيح على صليبه والحسين في كربلاء.
ونعرف من هذا التراث صورتين للقربان ووظيفته، وصورتين للقاتل:
الأولى مؤسسة على فكرة الشهيد والشهادة بحد ذاتها، مقابل مقاربات أخرى، منها البطل مقابل الشهيد، والفرق بينهما في الشكل القرباني، الاسترضائي الشعبوي في حالة البطل، والاسترجاعي الاستدعائي في حالة الشهيد، فالدم للأرض القومية كما المطر لخصوبة الأرض، لا يذهب هدرا ولا يكون كيفما اتفق ولا يكون مجرد أمنيات، فالشهادة كفعل وممارسة وصيرورة هي الطريق لأي انبعاث، سواء في اليوم الثالث أو السابع أو الثاني عشر.
هذا عن صورتي القربان ووظيفته، أما عن صورتي القاتل فهما: الأولى صورة (وكيل) القوة الشيطانية وأقنعتها التي تظهر في أشكال خادعة، فمن الروايات المتداولة حول الوعول والترميزات الطوطمية المختلفة في حالة تموز، إلى قيام حاكم الربع في الجليل بالوكالة عن اليهود باقتياد المسيح إلى الصليب، إلى عبيد يزيد وهم يقتلون آل بيت النبي في كربلاء.
الصورة الثانية، التأويلات الشائعة لحكاية قابيل وهابيل، الصحراوي الجواب الجاف، “ست” قاتل اوزيريس في التمثلات المصرية القديمة، ويهوه وتمثلاته التوراتية، والوهابية القديمة والجديدة، مقابل ابن الماء والأنهار والشمس والأرض، الشهيد الحي كما المسيح والإمام.
ذلك ما ينقلنا عما أسماه أنطون سعادة بيهود الداخل كوكلاء للأصيل الصهيوني، ولا يقتصر القتل هنا على الاغتيال الشخصي بل يمتد إلى اغتيال الروح الجمعية وجسدها، الأرض، سوريا الطبيعية، عبر تمزيقها في سايكس بيكو إلى شظايا على شكل كيانات وهويات فرعية قاتلة مقتطعة من لحم الجسد السوري التاريخي.
هكذا تموز، بين محاولة الاغتيال الجمعي للوطن السوري التاريخي، وبين الاغتيالات الفردية هنا وهناك، بين الرحيل والنهوض في اليوم الثالث كما الفينيق التموزي السوري في كل مرة: سعادة بين رحيله واقفا مفتوح العينين وبين انبعاثه في مشروعه وحزبه، وسوريا بين تمزيقها وبين روحها الواحدة، المؤتمر السوري في تموز 1919، حزب الشهداء على امتداد الوطن والتاريخ، الوثبات التي لم تتوقف منذ تموز 1925: سلطان الأطرش في حوران وجبل العرب، هنانو في حلب، الأشمر في الشام، وصالح العلي في جبال العلويين، يمزقون علم الانتداب ويقاتلون حتى آخر شهيد.
وكما في حالة تموز سعادة، عشرات الشهداء من كل التيارات والأفكار المجبولة من تراب الهلال الخصيب، الذين رحلوا في تموز على امتداد سوراقيا، يوسف العظمة بطل ميسلون، ومن فلسطين ومن أجلها: غسان كنفاني، ناجي العلي، عبد الرحيم محمود، حنا ميخائيل، ومن العراق عشرات العسكريين اليساريين الذين أعدمهم اليمين، ولا ننسى عشرات القامات الراحلة في هذا الشهر، حياة عطية، توفيق زياد، وناجي علوش.
كما نعرف أنه في تموز كرس الجزائريون ثورة المليون شهيد ضد الاستعمار الفرنسي لاستقلالهم الوطني، واندلعت معظم الثورات الكبرى أيضا سواء على الصعيد العالمي أو العربي، ففي هذا الشهر من عام 1952 اندلعت في مصر الثورة التي أطاحت بتحالف فاروق والفساد والباشوات الإقطاعيين وأرباب المال والسوق من البرجوازية التابعة، مصرية ويهودية.
بعدها بسنوات اندلعت ثورة العراق بقيادة عبد الكريم قاسم التي أطاحت بآخر القلاع البريطانية وبقايا حلف بغداد ورجلها نوري السعيد، ومن المؤسف أن عبد الناصر وقاسم وكلاهما من ضباط حرب 1948 دخلا في خصومة بلا معنى، وكان السودان قاب قوسين أو أدنى من الانعتاق لولا تحالف النميري والسادات وإعدام قادة الثورة من المدنيين والعسكريين، الشفيع، عبد الخالف محجوب، النور وهاشم العطا.
أما على الصعيد العالمي، فالأبرز هو الثورة الفرنسية التي اقتحمت سجن الباستيل وقدمت للعالم أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان، ولن يكون بلا معنى الرحيل التموزي للعديد من الأدباء والمفكرين والفنانين الكبار، الذين ظلت الأرض والأنهار وفضاءات تموز تنبض في قلوبهم وحبرهم، مثل روسو، همنجواي، هكسلي، تشيخوف، وفوكنر.