رفقائي الأعزاء،
اخترت مقتطفات من رسالة حضرة الزعيم إلى وليم بحليس (20/7/1942)، متمنياً أن يقرأها كل واحد منا بتمعن وهدوء ورجاحة عقل قبل أن نقتحم وسائل التواصل الاجتماعي لنخوض نقاشات، يعرف واحدنا كيف تبدأ، ولكنه قد لا يعرف كيف تنتهي… ومن الأكيد أننا نجهل ما الذي نريد تحقيقه في يومنا هذا. تحيا سورية
رفيقي العزيز وليم بحليس،
منذ أيّام، نحو عشرة، أجبتك على كتابك الذي تذكر فيه أمر فؤاد (لطف الله) بعد تسلّمه كتاب جبران مسّوح. ثمّ تسلّمت كتابك الأخير المؤرّخ في 4 يوليو الحاضر وفيه نسخة كتاب كنت أرسلته إليَّ ولم يصلني.
إنّ الكلمة التي صدرت في “الزوبعة” لا علاقة لها بالثقة. إنّها طريقة رأيتها مضمونة لإبلاغك انقطاع رسائلك عنّي. فقد صرفت في الماضي أوقاتاً كثيرة في كتابة رسائل لم تصل إليك، ولم يعد في إمكاني الاستمرار على بذل مثل تلك الأوقات الضرورية لأمور أخرى على غير طائل….
… والآن سأتكلّم كلاماً عاماً يفيدك في صدد ما ورد في نسخة كتابك السابق وحاجتي لوجودك أو وجود معاون مقتدر سواك بقربي.
يظهر أنّ المثل القديم “عين لا ترى قلب لا يوجع” لا يزال ينطبق على عقليتنا الحاضرة في غالب الناس بدون استثناء القوميين. فقد مرّت أربع سنوات إلا أشهراً قلائل على وجودي في أميركا، ومثل هذا الوقت أو أقلّ على انضمام عدد من “الشباب السوري”. ولكن ماذا حدث من التقدّم الفكري العملي في أوساط هؤلاء “الشباب”؟
إنّ أفكاراً جديدة كثيرة قد وصلت إليهم عن القضية القومية الاجتماعية وعن المناقب الجديدة المطلوبة للنهضة، ولكنهم بقوا جامدين في تفكيرهم العملي والحالة النفسية لا تزال سيّئة جداً. هل يسأل واحدهم نفسه: كيف تسير الأمور، وماذا يمكن أن أفعل في سبيل النهضة والحركة، وماذا يجب علينا مباشرته؟ كلّا. كل واحد يكتفي بالاقتناع بأنّ الأمور يجب أن تسير بطريقة من الطرق من غير دخوله تحت مسؤولية ولا محاسبته في واجب…
… لا يكون بعيداً عن الحقيقة إذا قلت لك إنّ أكثر هذا “الشباب” الذي يشير إليه فؤاد يجهل كلّ الجهل ويعمى كلّ العمى عن حالة الزعيم وعن الضرورات المطلوبة من كل واحد من أفراده، على نسبة مقدرته وكفاءته واستعداده. هل يخطر في بال أحد أفراد “الشباب السوري” أنّ الزعيم يجاهد منذ عقد كامل من السنين جهاداً متواصلاً مضنياً ابتلى جسمه خلاله ابتلاء شديداً، وصار يجب أن نلتفت كل الالتفات الى هذه الناحية الهامّة ليبقى لنا الإشعاع الفكري والشعوري والقيادة الثابتة؟ أو هل يخطر في باله التفكير في لوازم مكتب الزعيم، ومقوّمات العمل الإذاعي، وكيفية تجهيز وإعداد ما يلزم لذلك؟ كلا. لا شيء من ذلك. ولكن يخطر في باله شيء كثير من الأفكار الفوضوية كالانتقاد والتعنت والسفسطة. كل واحد يريد أن يقول أقوالاً في الإدارة، والإذاعة، والثقافة والأدب. وكل واحد يريد أن يعلن ما يعتقده لازماً وما لا يعتقده لازماً، وما يراه صواباً وما يراه خطأ أو غلطاً. ولكن لا أحد يريد أن ينتقد نفسه ويرى تقصيره في شعوره وتفكيره وواجباته…
… إنّ الحرب السياسية غير الأبحاث الأدبية، ولها خطط نفسية وإذاعية لا تخضع لخطط التفكير العمومي. ولو كنت خارج ميدان السياسة لما كان خطر لي أن أتناول جميع هؤلاء الأفراد بكلّ هذا التطويل، إلا إذا تركت التفكير الإنشائي للاهتمام بالنقد المفيد. وليس سراً أنّي أتمرمر وأتململ من حاجتي إلى النزول إلى مستوى أولئك السخفاء لمناقشة سخافاتهم. ولكنّي وجدت ذلك ضرورياً لحصول النتيجة التي توخّيتها….
… هل خطر في بالك أو في بال فؤاد التفكير في هذا الشأن، وفيما آل إليه جسمي بعد كل ما مرّ عليّ من المحن القاسية. وهل يخطر لك أن تسأل: كيف يقدر هذا الرجل أن يحافظ، وهو في هذه الحالة، على شيء من قوّة الذاكرة؟ وكيف يمكن أن ننتظر منه في كل عدد من “الزوبعة” بحثاً جديداً في فلسفة النهضة أو في خططها؟ إنّ هذا الجيل الكثير المفاسد العديم قوّة التصوّر لا يعرف إلا أن يطلب. فكلمة هات! هي دائمًا في فمه. إنّه يشبه صبيّاً عديم التربية له في كل ساعة مطلوب جديد يضجّ ويصخب ليأتيه أحد به….
… وإذا كانت الحالة ستظلّ كما هي، فماذا أتوقّع؟ كلّ فرد على شيء من القوّة المادّية أو الاستغناء المادّي يظنّ أنّه يصير ذا فضل عليّ بانضمامه إلى الحركة، وأنّه يتوجّب عليّ مراعاة خاطره وتوقّي إحساساته لئلّا يغضب وينسحب. هذه الحالة لا تختصّ بفرد معيّن فقد رأيتها هنا مكرّراً. بأيّة ثقة يكتب كاتب في هذه الحالة للنهضة؟
… إنّ إبداء الرأي واجب في محلّه، ومنكَر في غير محلّه، وما أكثر الذين يبدون آراء في غير محلّها. إنّ القضيّة ليست قضيّتي وحدي، بل قضيّة الجميع…
… لا أزيد على ما تقدّم. ففي هذا البحث يكتب كتاب طويل. ولم أكتب ما كتبت لألومك أنت ولا لألوم أحداً. وإنّما هي لمحة من الداخل لعلّها تفيد. أتمنّى أن تكون وعائلتك بخير. سلامي القومي لك وللرفقاء العاملين. ولتحيَ سورية
ملاحظة: في كتابي إلى فؤاد قلت إنّي أقبل جبران مسّوح بحدّته وبرودته وبما فيه من حلو ومرّ وإنّي كذلك أقبل فؤاداً. وأخشى أن يسيء فؤاد فهم هذا القول، نظراً لحدّته وسرعة إحساسه بذاته. فما أقصده هو أنّه يجب أن نقبل بعضنا بعضاً على علّاتنا بشرط أن يكون القصد العمل بإخلاص لنجاح القضية.
*اختار الأمين احمد اصفهاني هذه المادة وصاغ المقدمة أعلاه