في كتابه الصادر منذ أشهر، يعالج الدكتور فايز عراجي موضوعا غاية في الدقة والخطورة. إنه النظام العالمي الجديد المسيطر وبدائله في الغذاء نموذجا أو مجالاً.
والسؤال البديهي والعميق الذي يطرح: مع التحولات التي حصلت ونشوء النظام العالمي الجديد، ما كان تأثير هذا النظام على الغذاء كنظام، نموذجاً؟ أي ما هي التحولات التي أحدثها هذا النظام على المجال الغذائي حصرا أو نموذجا؟ ما هي ملامح هذا النظام وما هي نتائجه السلبية؟ لماذا هذا الموقف المناهض للكاتب ولتيار عالمي واسع منه؟ وعلى من وقعت هذه النتائج السلبية، وكيف تمظهرت مفاعيله؟ الأهم: هل هناك من بدائل لمواجهة هذا النظام او الخروج من تحت سيطرته؟
في هذا الكتاب المركز المكثف والذي لا يتجاوز مئة وعشرون صفحة من القطع الصغير تسعون منها للبحث ، مذيلة بحوالي ثلاثين صفحة من المراجع المختصة في الاقتصاد والفلسفة والغذاء والاجتماع وكلها من اللغات الأجنبية(122 مرجع) ، يدخل الكاتب وهو دكتور في التكنولوجيا الحيوية والصناعات الغذائية ، الى صلب موضوعه، ماسكا مفاصله، ضابطا مفاهيمه، بمنهج علمي ودقة في التحليل، في مساحة ضيقة بين الموضوعية التي يتطلبها البحث العلمي، والذاتية التي تحمل نسقا قيميا فكريا فلسفيا نقديا واضحا لا يمكن للكاتب ان يخرج منه وهو أصلاً لا يخفيه فهو مناهض للعولمة كما صرح.
في الكتاب يجري الكاتب تأريخا للنظم الغذائية التي سادت، ولمحطات التحول ونتائجها، ويخلص الى البدائل التي يرى انها هي الحل لمواجهة هذا النظام، بمنهج مركزي تتجه كل فصول الكتاب نحو غايته الأساسية التي يهدف كتابه اليها بلا حشو ولا استطرادات وهي إيجاد بدائل لهذه السيطرة وتوعية القارئ لخطورة هذا النظام المسيطر وما جر من نتائج، وتوجيهه الى البدائل أو الحلول.
في الفصل الثاني يبدأ بالاستشهاد بالكاتب الأميركي توماس فريدمان الذي حدد ثلاث مراحل من العولمة: بدأت بعولمة الدول والحكومات ثم عولمة الشركات ثم عولمة الفرد عبر الحاسوب الشخصي والانترنت. وان المرحلة المقبلة بحسب فريدمان، ستشهد صراعا بين العولمة بما تضم من رأسمال وتكنولوجيا وداتا معلومات، وبين القوى القديمة أي الثقافة والجغرافية والتقاليد والمجتمعات. ويستشهد بالبروفيسور اليوناني بانيس فاروفاكيس، فنحن امام تحول اقتصادي عالمي من اقطاعي الى رأسمالي إلى اقطاعي-تقني. اذاً نحن أمام منصات او أسواق افتراضية حلت محل الأسواق التقليدية.
لقد طال هذا النظام كل مجالات حياتنا من اعلام وتربية وصحة وتربية وغذاء. فيعرض الكاتب بعضا من تأثيراته في كل مجال على حدة من الفائدة مراجعتها في الكتاب.
في الفصل الثاني والثالث يعرض لتاريخ السيطرة على النظام الغذائي العالمي ، كيف تمت ؟
لقد مرت هذه السيطرة بمراحل عديدة:
المرحلة الأولى انتهت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، كان اتجاه تدفق الغذاء اتجاه جنوب شمال. في هذه المرحلة كانت دول الجنوب تطعم دول الشمال. وقد امتدت هذه المرحلة حتى 1930 مرحلة الكساد الكبير.
، المرحلة الثانية :ظهر هذا النظام بعد الحرب العالمية الثانية ، كان التخلص من الفائض في اتجاه العالم النامي في صميمه. قام هذا النظام على أساس برامج دعم الزراعة وتشجيع التصنيع الغذائي وقوانين حماية الإنتاج خلف الرسوم بطريقة لا يمكن اختراقها الا من خلال البرامج العامة للمساعدات او المنح الغذائية. لقد نجح هذا النظام بتداول المنتجات الزراعية تحت مسمى منح وليس سلع.
المرحلة الثالثة: بدأت مع العالمية بدايات الستينيات حيث دخل النظام الغذائي العالمي مرحلة خصخصة الزراعة …. حيث أعطت الأولوية للأرباح الزراعية للشركات الكبرى على حساب الناس والكوكب. في هذه المرحلة :
أصبح صغار المزارعين أكثر اعتمادا على الأسمدة الكيميائية باهظة الثمن، وهذا ما أدخلهم في مستويات متزايدة من الديون.
كان يتم التخلص من الفائض الزراعي على شكل مساعدات زراعية، من قبل البلدان المانحة، وتكرست بذلك التبعية الغذائية لهذه الدول
انعكس اتجاه تدفق الغذاء بعد الكساد الكبير عام 1930، فاستملت دول الشمال انتاج الغذاء لتغذية صناعة الحرب الباردة في الدول الثالثة.
دخل النظام هذه المرحلة بعد تأسيس منظمة التجارة العالمية، تعمق التصنيع الغذائي التجاري وسيطرت الشركات العابرة للقارات لى سلاسل النتاج والتوزيع في العالم.
النظام الغذائي الثالث: دخل العالم مرحلة هذا النظام بعد تأسيس منظمة التجارة العالمية WTO عام 1995. بدأت ملامحه تتشكل مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. عمق هذا النظام عملية التصنيع الغذائي التجاري وعولمتها عبر ربط الشركات المحلية بالشركات عبر القارية. دمج النظام الجديد مناطق جديدة في سلاسل البروتين الحيواني مثل الصين والبرازيل. وولد كتلة من النازحين نحو الأحياء الفقيرة بعد مغادرة صغار المزارعين ارضهم.
النظام الغذائي الرابع: اما التحولات المتوقعة في بعض آليات النظام الغذائي الحالي والتي ستؤدي الى نشوء النظام الاقتصادي الرابع فهي:
التحول الأول: اعادة تشكيل السياسات الغذائية الدولية.
التحول الثاني هو فرض تحولات جذرية في النظم الغذائية ككل.
التحول الثالث رفع الدعم عن الوقود الحيوي. وتعليق التفويضات بحجة الاحتفاظ باستقرار الامدادات الغذائية العالمية
التحول الرابع المتوقع في النظام الغذائي الحالي: هو رفض استراتيجيات الاكتفاء الذاتي ومحاربتها.
التحول الخامس: هو توطين الإنتاج وتنويعه في الدول المتقدمة.
التحول السادس: دعم الابتكار والبحث العلمي.
من أوضح المحطات ازمة أوكرانيا وجائحة كوفيد 19. أدت إجراءات السلامة العامة وإجراءات التباعد الى تباطؤ خطير في النشاط الاقتصادي، فتعطلت سلاسل التوريد. دفت الجائحة حوالي 132 مليونا الى المجاعة. تعرض أكثر من 25 بلدا الى خطر التدهور الكبير في الأمن الغذائي. بسبب الآثار الاجتماعية والاقتصادية للجائحة. لقد كان واضحا تأثير الجائحة على النظم الغذائية والأمن الغذائي والتغذية. مع تطل نظام العمالة في النظم الغذائية تمق تطل سلسلة التوريد. تهدد الأمن الغذائي للشعوب التي تعاني أصلا من مشكلة توفر الغذاء. لم ينهر النموذج العالمي المسيطر، ولكن نتج ن ذلك كثير من المعاناة الجماعية وتركيز مكاسب ضخمة بيد قلة قليلة.
أما عن نتائج هذا النموذج المسيطر على النظام الغذائي العالمي. فما هي؟
لقد أدت سيطرة النموذج الحالي المسيطر لى النظام الغذائي الى نتائج كارثية اقتصادية اجتماعية بيئية صحية زراعية وحتى ثقافية. ويعرض لأهم هذه النتائج مثل:
تسليع الغذاء وتحرير تجارته.
ارتفاع عدد الجياع وانعدام الأمن الغذائي.
تسليع الموارد الطبيعية.
انهيار مؤشرات التنوع البيولوجي ومؤشر الكوكب الحي للثروة النباتية والحيوانية.
تدمير الأسر الريفية.
تغير النمط الغذائي للشعوب.
توجيه الأبحاث وغيرها من النتائج العلمية الزراعية.
ويمكن اضافة بض النتائج مثل ربط الغذاء بالوقود الاحفوري، او سيطرة الزراعات الأحادية، او هيمنة التصنيع الغذائي التجاري، او دمقرطة الغذاء، واتاحته للجميع.
وفي الفصل السادس يصل الى الأهم: ما هي بدائل النموذج المسيطر على النظام الغذائي العالمي ؟.
اذا يصل الكاتب الى توصيف الواقع فيقول: تمكن النظام الغذائي العالمي من تهميش النماذج الأخرى، ومحاصرتها وحتى محو بعضها. في هذا النظام الجديد أكد النمط الغذائي العالمي الجديد دور الغذاء في الاقتصاد السياسي.
إذاً فالنموذج المسيطر يصور أزمة الغذاء في العالم كأنها أزمة نقص في الإنتاج أو ارتفاع كلفته او نقص في تزويد السوق او ازمة في الأسواق المغلقة او المضبوطة. يطرح هذا النموذج حلولا عديدة منها فتح الأسواق الغذاء، او زيادة الإنتاج وتكثيفه لخفض كلفته، او تطوير شبكات توزي ونقل الغذاء او توجيه انتاج الغذاء وتوزيعه ونقله نحو الشركات الكبرى بحجة قدراتها الاستثنائية والفريدة.
ومن الواضح ان هذا النموذج المسيطر يحاول من خلال طروحاته وتصوراته لحل أزمة الغذاء والجوع في العالم حرف النظر عن الحلول الجذرية والمستدامة. فيتغاضى مثلا عن حجم الخسائر الهائل في المنتجات الزراعية 40% او ن حصة الاسر الريفية في انتاج الغذاء الالمي 80%من الإنتاج. او من حجم الدعم المالي الهائل للقطاع الزراعي والغذائي 700مليار دولار أمريكي. ولا يخفي الكاتب موقفه الواضح المناهض للنموذج المسيطر رغم محاولته ان يكون موضوعيا قدر الإمكان.
وبعدها ينتقل الى الإجراءات والمفاهيم البديلة. وعليه فما هي الحلول؟، والأصح ما هي البدائل؟
يعدد هنا جملة من البدائل تبدأ من الفكري وصولا الى التطبيقي الميداني. ويعدد:
ايجاد او تأسيس تعابير ومبادئ فكرية بديلة. فيؤكد أهمية قيام المفكرين المناهضين لهذا النظام بصياغة التعابير والمفاهيم الفكرية الجديدة واعداد معجم خاص بالنماذج البديلة. وهنا يعرض لمثلين: مفهوم النمط الغذائي food regime بدلا من النظام الغذائي food system مفهوم النمط الغذائي و يشير أيضا الى أبحاث هاربية فريدمان، أيضا ظهور مفهوم الأمن الغذائي food security ومفهوم العدالة الغذائية food justice والسيادة الغذائية
food sovereignty
إجراءات ومفاهيم بديلة.
تنويع المقاربات الإنتاجية.
اعتماد طرق زراعية مربحة.
تقصير سلاسل توريد الغذاء.
الزراعة المدعومة مجتمعيا.
منصات الطرق لبيع الغذاء.
تشجيع النمط الغذائي التقليدي.
اعادة الاعتبار الى الأبحاث الأساسية.
يختم الكاتب بقوله: “ان بدائل النموذج المسيطر على الغذاء كثيرة، أكثر من أن تحصى وأن تعد ولو أنها غير مسوّقة. ويجب ألا توحّد وإلا تحولت الى نموذج آخر مسيطر. لكل مجال جغرافي بدائله وأنماطه التي طورت عبر مئات السنين. المطلوب ليس تطبيقا حرفيا لهذه البدائل، بل درسها والإفادة منها.” ويعرض لأنواع ثلاثة من البدائل الزراية المستدامة وهي الزراعة المتجددة والزراعة الحرجية والزراعة الحضرية والتي تطبق في دول كثيرة. “
اذا لا شك أن هذه البدائل تحتاج الى شروحات واسعة لكل منها، مما لا يتسع هنا المجال لعرضها، إضافة الى مناقشتها وتبيان مدى ملاءمتها لواقعنا مع الاخذ بين الاعتبار واقعنا الثقافي الاجتماعي الاقتصادي والعقليات السائدة وطبيعة البنى الاقتصادية ودور الريف الاقتصادي الاجتماعي، وهذا ربما يحتاج لكتاب اخر يكون على كاهل الكاتب الخوض فيه كي يكون تتمة منهجية منطقية لمجتمعنا.
اكتفيت في هذا النص القصير باجراء عرض سريع لما تضمنه الكتاب، ودعوة القراء لقراءته، مؤكدا أهمية دوره من الناحية المعرفية وخاصة حالة الفقر الكبير في المكتبة العربية في مثل هذه الكتب.
ختاما، ان الكاتب اعتبر في المقدمة أن هذا الكتاب محاولة لرفع مستوى الوعي حول الغذاء واهميته وخطورة استغلاله، ولا يخفي انه ليس ترفا فكريا ولا رغبة في تحوله الى كاتب، إنه يحمل قضية فهو” لبنة في إطار حركي يحمل قضية الحق في الغذاء “
وأجمل ما في الكتاب ما خطه الكاتب في المقدمة : “للفقراء للمهمشين للجوعى الضعفاء…… لا املك الا مناصرتكم بالمعرفة . “