لا ديمقراطية في الدولة دون فصل السلطات

يكاد يكون هناك إجماع في الحزب السوري القومي الاجتماعي على مبدأ فصل السلطات، هذا المبدأ الملازم لمبدأ الديمقراطية التي قال بها سعاده وأوصى في دستوره ان يتم العمل بها من بعده، كما سترى بعد قليل، ولم يكن من لزوم لإعطاء هذا الموضوع مساحة من التعليق هنا لولا أن البعض، وهو قليل، لا زال يعتقد بعدم وجوب الفصل بين السلطات ويقول إن نظام الحزب يتّصف بما يسمّيه “الديمقراطية المركزية”. والديمقراطية المركزية هذه هي تعبير جديد لم يستعمله سعاده بل استعمله القائلون بعدم جواز الفصل بين السلطات وأعطوه معنى دمج السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بمرجع واحد، أي بمجلس واحد أو شخص واحد.

هذا البعض يستند في قوله هذا على المادة الخامسة من دستور سعاده التي تقول إن “نظام الحزب مركزي تسلسلي حسب الرتب والوظائف التي تنشأ بمراسيم يصدرها الزعيم”، ويستنتج أن عبارة “مركزي” تعني أن السلطات كلها من تشريعية وتنفيذية تجتمع في مركز قرار واحد، وهذا معناه أنه لا فصل بين السلطات. وهذا البعض يدعم وجهة نظره هذه بحقيقة أن سعاده كان يتولى وحده زعامة الحزب وكان وحده مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية.

إن مكمن الخطأ في هذا التأويل هو التالي:

صحيح أن الزعيم كان يجمع في شخصه وحده السلطتين التشريعية والتنفيذية ولم تكن هاتان السلطتان منوطتين بشخصين منفصلين، ولكن هذه كانت مرحلة تأسيسية تقتضي ذلك، وفي المراحل التأسيسية للدول في العالم كله يتولّى مؤسس أو هيئة تأسيسية السلطات كلها وتضع التشريعات الأساسية لقيام الدولة حتى إذا ما انتهت هذه المرحلة يتم عرض هذه التشريعات على الشعب ويتم استفتاءه عليها، ويتم بعد ذلك إعلان انتهاء المرحلة التأسيسية وإعادة العمل بالديمقراطية وبفصل السلطات. وهذا بالضبط ما فعله سعاده الذي أوصى بفصل السلطات بعد غيابه، وذلك من مضمون المادة الثانية عشرة من دستوره التي تنص على أن يكون للرئيس المنتخب السلطة التنفيذية فقط وعلى أن تحصر السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية بالمجلس الأعلى. وهذا معناه الأكيد فصلاً للسلطات ولا جدال في ذلك أبداً.

وكان سعاده بتاريخ 28-8-41 قد كتب رسالة الى منفذ عام سان باولو البرازيل يقول له فيها:

“إن امتياز الحكم الفردي في الدستور هو فقط لصاحب الرسالة ومؤسس القضية وليس نظاماً أساسياً دائماً. والاتجاه الديمقراطي في نظامه صريح لا يرفضه عقل صحيح”.

والحقيقة هي أن سعاده قال أيضاً بفصل السلطات بطريقة غير مباشرة، حتى عندما كان هو مصدراً للسلطتين، أي عندما لم يكن معمولاً بفصل السلطات، بل كانت السلطتان مدموجتين في شخصه وحده، حيث قال: “إن زعيم الحزب هو قائد قواته الأعلى ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية”، فهو لم يقل مصدر السلطة، بل قال مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية وفصل بينهما. كما إننا نرى فصل السلطات واضحاً في مراسيم الزعيم الدستورية التي منها ما يحمل قوانين ومنها ما لا يحمل قوانين، أي منها ما ينشئ سلطات تشريعية ومنها ما ينشئ سلطات تنفيذية، منها ما يسنّه سنّاً ومنها ما يرسمه رسماً.

إن مبدأ فصل السلطات، إذاً، لا يتعارض مع النظام المركزي التسلسلي، وإن كلمة مركزي لا تعني دمج السلطات، بل تعني أن السلطات الفرعية في المناطق، مهما كانت بعيدة عن المركز، لها مرجع واحد هي مسؤولة أمامه، إنها كلها تحت إمرة السلطات العليا في المركز، وهذا لا يمنع أن تكون السلطات العليا في المركز منفصلة الى تشريعية وتنفيذية. وعندما نقول “إمرة” يعني قولنا إنها تحت إمرة السلطة التنفيذية تحديداً، أمّا السلطة العليا التشريعية فعلاقتها ليست علاقة إمرة مباشرة مع المناطق والفروع، بل بواسطة السلطة التنفيذية العليا في المركز فقط.

إن كلمة “تسلسلي” هي التي تعطي كلمة “مركزي” معناها الكامل، والتسلسل معناه أن القرارات العليا تصل الى الفروع بالتدرج من المركز الى الفروع أي من الأعلى الى الأدنى، وإن الاقتراحات تصل الى المراجع العليا بالتدرج من الأدنى الى الأعلى أي من الفروع الى المركز. إن مبدأ التسلسل قد ورد أيضاً في المادة السابعة من دستور سعاده التي تقول “كل مراسيم الزعيم وقراراته وتشاريعه خطّية وتُنفذ بطريقة التسلسل” (أي من الأعلى الى الأدنى). ومبدأ التسلسل ورد أيضاً وأيضاً في المادة الثامنة من دستور سعاده التي تعطي الحق بإبداء الرأي لكل عضو في الحزب “شرط أن يأتي إبداء الرأي رسمياً بواسطة التسلسل” (أي من الأدنى الى الأعلى).

فالمركز إذاً هو المصدر والمرجع بنفس الوقت، وهذا هو معنى النظام المركزي التسلسلي، وليس معناه أن لا فصل بين السلطات. إن النظام المركزي التسلسلي لا علاقة له بالفصل أو الدمج بين السلطات.

ولفهم معنى النظام المركزي التسلسلي أكثر يجدر بنا الالتفات الى نقيضه، أي الى النظام اللامركزي. ففي تاريخ الحزب سابقة عن محاولة إنشاء “لامركزية” إدارية وسياسية. هذه المحاولة جرت في منطقة الشام احتجاجا على “الواقع اللبناني” الذي أعلنه نعمة تابت أبان غياب الزعيم في الأرجنتين. فقد أقدمت مجموعة رفقاء من منفذيه دمشق على تشكيل مجلس أعلى مستقل عن المركز برئاسة خالد مورلي. لكن الزعيم اعتبرها مؤامرة وتمردا على المركز وتم قمعها وطرد من قام بها

 هناك أيضاً تدبيرٌ للزعيم سنة 1947 حيث ألغى تدابير المجلس الأعلى المتخذة في غيابه والقاضية بإنشاء مجالس سياسية للحزب في الكيانات السورية تتمتع باستقلال كبير عن مركز الحزب وسياسته المركزية الواحدة. ولنا من رسالة الزعيم الى الرفيق يوسف صايغ تاريخ 10-9-1947 ما يوضح أن تدابير الزعيم كانت للحفاظ على “نظام الحزب ووحدة إدارته المركزية”، وللحفاظ على “المركزية التامة” ولكي يكون للشُعب السياسية في المناطق مرجعها الذي هو المكتب السياسي المركزي. (العبارات التي تحتها خط هي لزعيم)

في كل تلك الأمثلة لا نجد أي تناقض بين المركزية التسلسلية ومبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية. إن المركزية واللامركزية هي موضوع مستقل عن موضوع فصل السلطات أو عدم فصلها، ولا علاقة لهذه بتلك.

ثم إن فصل السلطات من البديهي أنه لا يعني أن لا علاقة بينها. إن فصل السلطات يجب أن يرافقه تعاون هذه السلطات وتنظيم العلاقة بينها تعاوناً إيجابياً، ذلك لأن السلطات في الأساس وُجِدت لغاية واحدة هي خدمة مصلحة واحدة لقضية واحدة، وهذه العلاقة بين السلطات تحكمها وتنظمها قوانين دستورية فضلاً عن وعي المصلحة الواحدة للقضية الواحدة.

إن فصل السلطات يعني أنه لا يجوز للمسؤول الواحد أن يتولى سلطتين بنفس الوقت واحدة تشريعية وأخرى تنفيذية. فالسلطة التشريعية هي التي تصدر القوانين والسلطة التنفيذية هي التي تنفذها، وللسلطة التشريعية أن تراقب حسن تنفيذ السلطة التنفيذية للقوانين التشريعية ولا يتم ذلك إلّا بفصل السلطات لأنه لا يمكن للسلطة الواحدة أن تراقب نفسها!

وفصل السلطات يعني أيضاً أنه يجب ألا يحدث تداخل في الصلاحيات بين السلطات. يعني ألا تتعدّى سلطة معينة على صلاحية سلطة أخرى. يعني ألا تتدخل السلطة التشريعية في صلاحية السلطة التنفيذية، ولا تتدخل السلطة التنفيذية في صلاحيات السلطة التشريعية. هذا التداخل والتدخّل أدّى الى صراع صلاحيات أستمر منذ استشهاد سعاده الى اليوم وتسبب بإنهاك الحزب في صراعات تناحرية داخلية لدرجة الانقسام والانشقاق. لا الرئيس يجوز له أن “يفتح على حسابه” كما حصل في الخمسينات ومطلع الستينات، ولا المجلس الأعلى يجوز له أن يحاصر سلطة رئيس الحزب وصلاحياته ويخنقها كما حصل بعد ذلك.

للمجلس الأعلى أن يراقب حسن تنفيذ الرئيس لسياسة المجلس وقراراته وقوانينه دون التدخل في هذا التنفيذ. ويحق له توجيه ملاحظات إلى رئيس الحزب أو حتى استدعائه لمناقشته فيما يراه المجلس تخطّياً لسياسة الحزب التي رسمها أو القوانين التي شرّعها. والسبب هو أن المجلس هو الذي رسم هذه السياسة وهو الذي سنّ هذه القوانين الدستورية ويحق له أن يتأكد أنها تأخذ طريقها الى التنفيذ بما لا يتخطاها ولا يشوهها.

وإذا حدث خلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من أي نوع، وهذا جائز الحدوث، يصار الى عرضه على المحكمة الدستورية للبت به والحكم فيه حكماً مبرماً. وهذا سيأتي ذكره بعد قليل تحت عنوان السلطة القضائية في الحزب. وهذا يقودنا لمعرفة أحد الأسباب التي جعلت سعاده يكتفي بأنه مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية فقط، دون السلطة القضائية. السبب هو أن امتلاكه هتين السلطتين معاً بشخصه وحده ينفي أي خلاف أو تصادم صلاحيات بينهما وبالتالي ينفي أية حاجة لسلطة قضائية دستورية. وقد اكتفى سعاده بأن شرّع لمحكمة مركزية تحكم في “المخالفات الحزبية والمدنية التي تنشأ بين القوميين” وليس في النزاع بين مؤسسات دستورية. أما بعد استشهاد سعاده وبعد فصل السلطات فيجب التشريع لسلطة قضائية مستقلة تكون من مهماتها الفصل في النزاع المحتمل بين السلطات، فضلاً عن الحكم في المخالفات الحزبية والمدنية التي تنشأ بين القوميين.