سعادة وفلسفة التاريخ، الخاتمة – الجزء الثاني

أما في مفهوم الفلسفة التاريخية فهنالك ما هو قبل التاريخ وأهم من التاريخ، وهو الحقيقة الفلسفية التي تبحث في مسببات الأمور ونتائجها وتحكم بخيرها للإنسانية أو شرها ونفعها أو ضرّرها. مثلا الوجهة الحقيقية الجديرة بالنظر في “الثورة الفرنسية” هي في أسباب تلك الثورة ونتائجها. كما أنّ الحكم بنفع تلك الحادثات والاختبارات أو ضرّها وما هو مبلغ تأثيرها في أحوال النوع البشري برمته وكيفية فعلها فيه، غير مختص بالتاريخ، بل بالفلسفة التاريخية. ومن الخطأ اعتبار المظهر التاريخي للثورة، من حيث المكان والزمان والظروف التي حصلت فيها يمكن أن يكسبها “صفة سامية ” فهذه النظرية فاسدة إذا قرأناها بفلسفة أعمق وبحث أدق وأوسع، وعلّلناها تعليلاً أعمّ وأكمل، وفي هذا السياق يقول د. أسد رستم،:”وعلى الرغم من العناية بالمصادر وجمعها ونشرها ونمّو الروح البريء من الهوى وتقدم الطريقة العلمية في البحث وازدياد احترامها في جميع الأوساط في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ، ظلّ البعض من رجال التاريخ والفلسفة يندفع بالعاطفة فيضل ويضلل .ولا يزال رجال الفلسفة حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر فيما يقرأون أو ترو في الاستنتاج . وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الاستشارة فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه”. (هامش رقم 8)

ثانيا – في الشأن السوري الخاص في خطابه التوجيهي المنهاجي الأول (2)، قال سعادة:” منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الحرية والواجب والنظام والقوّة، تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، تاريخ الأمة السورية الحقيقي “. كانت الغاية عند سعادة من تقصي الروايات التاريخية، من خلال المدارس التاريخية، سواء القومية منها، والأخرى المعادية لحقيقتنا ونقد فلسفة هذه الروايات المعادية والمجحفة بحقّ تراثنا وحضارتنا، هو إنصاف التاريخ السوري، من خلال كشف الحقائق التاريخية وتثبيتها على قواعد علمية، لا تقبل الشك، والعمل على إنصاف التاريخ السوري والحضارة السورية، وتمجيد الأعمال والإنجازات الحضارية العظيمة التي يزخر بها التاريخ السوري منذ فجر التاريخ الجلي. وتدوين تاريخ الأمة بروح علمية موضوعية منصفة، باعتماد الحقائق التاريخية المثبتة، وإسقاط كلّ ما يشوّه الحقيقة التاريخية السورية، وتأسيس نهضة قومية سورية على جوهر روحية مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي الرائع، الذي ظهرت فجر معالمه من خلال المدرسة السورية القديمة للتاريخ التي سبقت الفتوحات الأجنبية الكبرى الفارسية والإغريقية والرومانية، حيث كان مؤرخو سورية يُعتمدون ثقات ومعلمين للذين يريدون تدوين التاريخ أممهم. الأغريك والرومان اعتمدوا على مؤرخين كنعانيين(فينيقيين) قديما ليؤرخوا عن بلادهم. وقد شهد بهذه الحقيقة المؤرخ الإيطالي المشهور شيزر كنتو في مؤلفه * التاريخ العالمي* ” (3).
إلا أنّه بعد الفتوحات الخارجية الكبرى التي تعرّضت لها الأمة السورية على يدّ الفارسيين والإغريق، ولما كان لم يسلم من حريق قرطاجة بعد فتح سيبو، كتب عن التاريخ السوري، أصبح التاريخ السوري وتأويل التاريخ ورواية التاريخ، وقفا على اتجاه المدرسة الإغريقية- الرومانية التي بخست السوريين حقهم في الإنشاء والإبداع والعمران” (4). وقد تعمّد مؤرخو تلك الدول تدوين التاريخ السوري بروح عدائية، رمت إلى تشنيع كل صفة للشعب السوري بعامل عداوتها نتيجة الصراع العنيف على السيادة البحرية ، وقد بلغت تلك العدائية ذروتها ــ مستغلة انهيار الدولة السلوقية السورية ونظامها السياسي والاجتماعي والحربيّ الذي تطوّرت الحياة السورية نحوه منذ القدم وتجلى في قيام الدولة السورية السلوقية التي صارت إمبراطورية عظيمة بعد توحدات سياسية سابقة أقلّ متانة وأسرع عطبا، تعرّض مصير سورية لتقلبات كثيرة في أجيال عديدة كان الفاعل الأقوى فيها دائما إرادة الفاتح الجديدة وسياسته ــ فجزئت البلاد ثم وحدت، ثمّ جزئت حتى ضاعت حقيقتها، وخرجت دورة حياتها عن محورها، وتراكمت على مخلفاتها طبقات الأرض ..” (5). وكان من أبرز تداعيات، ممّا تقدّم، تشويه الهوية السورية، وتفتيتها، عبر إطلاق تسميات سياسية جزئية على شخصيتها الواحدة، يقول سعادة:
“بعد تلك الفتوحات سقطت جميع شعوب سورية ودولها وخضعت للأجنبي، وصارت الدول الأجنبية هي التي تسيطر، والمؤرخون الأجانب الذين استقوا منا قديما هم الذين أصبحوا يعرّفون سورية وحقيقتها على الأشكال التي تقرّرها تلك الدول الأجنبية وبالإسماء التي تقرّرها هي لها ” (6).
كان التأريخ السوري، هو الضحية الكبرى التي نتجت عن تلك الفتوحات وتداعياتها، إذ انتقلت عدوى تشويه هذا التاريخ من المدرسة التاريخية القديمة المعادية إلى المدارس التاريخية الأجنبية الغربية التي نسخت عمّا سبقها ومسخت تاريخنا من وجهات سياسية، لا علمية، لم تأخذ بالاعتبار لا حقيقة الأمة ولا شخصيتها، متجاهلة قيمها وعطاءاتها الحضارية:
“إنّ تاريخ سورية بعد الفتوحات الأجنبية الكبرى، خصوصا فتوحات الفرس والإغريق والرومان، كان يُكتب دائما من أجانب. تعريف البلاد، تعريف حقيقتها، كان يُعين دائما من قبل مؤرخي المدرسة الإغريقية الرومانية للتاريخ الذين كتبوا بروح العداء لسورية والسوريين، وبعدم إنصاف للحضارة والثقافة السوريتين … “التواريخ الأجنبية والمؤرخون الأجانب لم ينظروا إلى سورية من وجهة حقيقة الأمة وحقيقة الوطن، بل من وجهة النظر السياسية بلا تحقيق للوضع الطبيعي والاجتماعي. والمصدران اليوناني والروماني هما عدوان تاريخيان للأمة السورية ولاتجاهها التاريخي. ولذلك لا يمكن لهذين المصدرين الأوليين للتاريخ أن ينصفا السوريين في حقيقة نفسيتهم، في حقيقة وجودهم في العالم ” (7).
مجاراة التواريخ الأجنبية
جارى معظم المؤرخين والباحثين والتشكيلات السياسية والطائفية من شعبنا، مراجع التواريخ الأجنبية المعادية في تدوين تاريخ سورية، جاهلين أنّ كتابة التاريخ علم وليس مجرّد نسخ الروايات ونقلها، يقول د رستم: “وحسبنا أن نذكر أنّ أكثر مؤرخينا اليوم يزعمونا أنّ كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة. ففي عرفهم أنّك إذا أجدت الإنشاء وفهمت بعض النصّ فقد هيئت العدة لكتابة التاريخ. ولقد فات هؤلاء أنّ التاريخ هو علم أيضا يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى، من طبّ وهندسة وفقه وغيرها، وأنّه لا بدّ لصاحبه من أن ينشأ نشأة علمية خالصة يتربى فيها على الشروط الفنية التي يقتضيها كلّ علم…”(8)
فكاد من جراء ذلك، أي من نسخ الروايات التاريخية المعادية من دون دراية علميّة، أن تضيع هويتنا القومية، إلى أن انبثقت أنوار النهضة السورية القومية الاجتماعية (9). التي وضع على عاتقها سعاده مهمة نقض حكم هذا التاريخ المسيء، وتغيير وجه التاريخ في الوجهة الصحيحة، باتجاه الغاية العظمى ــ بداية التاريخ المستقل للأمة السورية، الذي سيعكس حكم التاريخ عليها، بأنّها أمّة لا تاريخ لها، بإعادة بناء تاريخ الأمة القومي الحقيقي الذي ستفاخر به بين الأمم الحرّة. فنحن “نسير مثبتين سيرنا في التاريخ الذي لا ينعدم، ونحن إذا أدركنا التاريخ لنبني التاريخ نبرهن على أنّنا أصبحنا أمّة فاعلة في التاريخ، لذلك يمكن أن نقول إننا أمة منتصرة في التاريخ. قد انتصرنا انتصارات كثيرة غير منظورة، وانتصارات كثيرة منظورة، وسيكون لانتصارنا الأخير مشهد ينظر إليه العالم أجمع “.
شدّد سعادة في مقدمة “نشؤ الأمم” على ضرورة فهم الواقع الاجتماعي، والعلاقات الناتجة عنه، لأنّ في غياب هذا الفهم تتفشى فوضى العقائد وبلبلة الأفكار ويعمّ التصادم المدمّر بين أبناء المجتمع الواحد، وتتضعضع حقائق الحياة الاجتماعية ومجاريها، وفي مقدمتها التاريخ الذي هو مجرى حياة الأمة، وخطورته في روحية الأمة أي في يقظة الوجدان القومي.
من هنا لا بدّ لأفراد كلّ جماعة ترتقي، من مرتبة الشعور بشخصية الفرد، إلى مرتبة الوجدان القومي، الشعور بشخصية الجماعة، من فهم الواقع الاجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه. وهي هذه العلاقات التي تعيّن مقدار حيوية الجماعة ومؤهلاتها للبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضة يوجد صعوبات كثيرة تؤدي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التصادم في المجتمع، فيعرقل بعضه بعضا، ويضيع جزءا غير يسير من فاعلية وحدته الحيوية، ويضعف فيه التنبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج.
وإنّ درسا من هذا النوع يوضح الواقع الاجتماعي الإنساني في أطواره وظروفه وطبيعته ضروري لكلّ مجتمع يريد أن يحيا. ففي الدرس تفهم صحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها. ولا تخلو أمّة من الدروس الاجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار (10).

الهوامش
2- سعادة: المحاضرات العشر، المحاضرة الثانية.
3-سعادة: المحاضرة الثالثة والرابعة.
4- سعادة: المحاضرة السادسة.
5- سعادة: مقدمة التعاليم القومية الاجتماعية، ط4، آذار1947.
7- سعادة: المحاضرة الرابعة.
8 – أسد رستم: مصطلح التاريخ، المقدمة.
9- سعادة: المحاضرة الثانية.
10- سعادة: نشؤ الأمم، المقدمة .