سيدني تحتفي بكتاب المحرقة الفلسطينية

أقيم في مدينة سيدني حفل توقيع كتاب “المحرقة الفلسطينية كما عشتها” للأمين فؤاد شريدي. شهد حضوراً كثيفاً تقدمه المنفذ العام الأمين أحمد الأيوبي وبعض النظار ومشاركة عدد كبير من الرفقاء والأصدقاء خاصة من أعضاء الجالية الفلسطينية في سيدني. كان الحفل تظاهرة أدبية وسياسية تركت أصداء ممتازة في أوساط الجالية. عرّف الحفل الأديبة والشاعرة كاميليا نعيم وكانت الكلمات على التوالي لكل من الأديب والصحافي أنطوان القزين الرفيق شحاذي الغاوي، السيد خالد غنام والمواطنة القومية زهية شريدي ابنة الأمين فؤاد الذي اختتم الحفل بكلمة رائعة حيث أهدى كتابه لحضرة الزعيم الخالد سعادة. وهنا النص الكامل لكلمة الرفيق شحاذي الغاوي:
منذ أن عرِفتُ فؤاد شريدي منذ أربعين سنة عرفتُه شاعرياً في القول والكتابة والخطابة وحتى في المحادثة الشخصية (…). ولا أخفي أنني كنت، أحياناً، أعيب عليه هذه السِمة في شخصيته وكانت حجتي هي أن الشعر والشاعرية، رغم جمالها وجمال ما تعبر عنه، فهي تستبطن بعض المبالغة التي تجافي الصدق والصراحة والموضوعية.
الى أن فتحت كتابه وقرأت له روايته في المحرقة الفلسطينية كما عاشها، فكأنني قرأت شعراً ينضح صدقاً ويفوح صراحة ويبوح بالموضوعية، وقلت: عندما يكتب شاعرٌ رواية حقيقية حدثت في الواقع، يكون ما يكتبه أجمل الشعر وأكثره تعبيراً عن الحقيقة.

عندما تقرأ: شعرت أنني جريح دون أن أنزف، وأنني أبكي، ولكن من دون دموع، شعرت أني أشاهد موتي وأنا على قيد الحياة، إن الموت يصبح جميلاً عندما يكون من أجل فلسطين، من أجل الوطن والأرض والهوية.
عندما يقول الكثير مما يهز وجدانك ويثير فيك أقوى العوامل النفسية وأكثرها إثارة، لا تتردد في القول بأن الشاعر عندما يكتب رواية يكون اسمه فؤاد شريدي.
عندما يرسم لك فؤاد صورة ابن الثماني سنوات كيف أضاع أمه وأباه وأخوته على الطريق من قريته الصفصاف قضاء صفد باتجاه قرية يارون قضاء بنت جبيل على المقلب الآخر من حدود سايكس بيكو، أي من حدود النفوذ الاستعماري لسورية بين بريطانيا وفرنسا، وبعد مسير متواصل مضني عبر الوديان والتلول تجنباً للطريق العام وتجنباُ لطائرات العدو التي كانت تبحث عن كل شيء حيّ لتقتله، وكيف وصل وحيداُ ضائعاُ الى أطراف قرية يارون، يكسو التراب والدم اليابس وجهه وثيابه، وكيف شمّ رائحة الخبز الطازج تشويه امرأة مسنّة، وهو لم يأكل منذ ثلاثة أيام، وكيف أن تلك المرأة أعطته رغيفاً فتراءى له أنها ملاك على هيئة بشر يمنحه إكسير الحياة، ويقول:
أمسكت بالرغيف كما يمسك الغريق بحبل النجاة، حاولت أن أمضغ فلم أتمكن، شعرت أن أسناني معطلة، فأنا لم أستعملها على مدى ثلاثة أيام. لاحظت تلك المرأة وعرِفَت أنني غير قادر على مضغ الرغيف فذهبت مسرعة وأحضرت لي كوباً من الماء سكبته من إبريق الفخار، فصرت أغمس الخبز في الماء كي أتمكن من ابتلاعه، وبعد لقمتين شعرت أن الحياة بدأت تعود الى فكّي الأسفل، ثم الى فكي الأعلى وشعرت أن الدم عاد ليجري في عروقي من جديد.
وهذه اللوحة هي واحدة من عشرات اللوحات المشابهة مثل بقر الجنود بطن المرأة الحامل أمام عينيه، ومثل القتل الجماعي لعشرات الرجال العزّل من السلاح في قرية الصفصاف بعد أسرهم وتقييدهم بحبل واحد، ثم رمي جثثهم، وبعضهم لا يزال يتحرّك، في جورة كبيرة كانوا هم أنفسهم قد أجبِروا على حفرها، وغيرها الكثير مما يصعب تصديقه، ولكنه قد حصل فعلاً.

إن رواية المحرقة الفلسطينية كما عاشها فؤاد شريدي سترهق ضعفاء القلوب وتعصر قلوبهم، أمّا الاقوياء فستثير فيهم إرادة الصراع وتوقظ فيهم معاني الوطنية والوجدان القومي والإصرار على رد الظلم وقتال الغزاة شذاذ الآفاق المجردين من أدنى وأبسط القيم الإنسانية. وعندما نقول إنهم مجردون من أدنى وأبسط القيم الإنسانية فإننا لا نقول غير الحقيقة المجردة، أوَلم تقرأوا لهم في كتابهم طوطمُهم يقول لهم:
افتلوهم، حرّموهم، أبسلوا كل نسمة حياة فيهم، شيخاً وامرأة، طفلاً رضيعاً، حرّموهم، حتى البهائم اقتلوها وحرّموها.
إن كتابك يا رفيق فؤاد قد تأخر صدوره كثيراً، واسمح لي أن ألومك على ذلك، فكيف استطعت أن تحبس كل تلك المشاهدات وكل تلك الآلام والمعاناة في تلك الأحداث الرهيبة الفظيعة طيلة 75 سنة ولم تُفرج عنها وتكتبها قبل اليوم بهذا التسلسل وهذا الوضوح، والأهم منه هذا الشرح لظروفها ولخلفياتها وأسبابها كما للنتائج المترتبة عليها وخريطة مواجهتها والاثمان المتوقع دفعها في هذه المواجهة.
إن كتابك يا رفيقي يثير فينا كل هذه المسائل والقضايا ويحرضنا على التفكير العميق في ما يجب عمله الآن
وفي هذا الطور الراهن من تطور صراعنا الوجودي مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين لا بد أن نستذكر ما أعلنه سعادة قبل استشهاده بقليل عندما قال: سوف تسمعون من يقول لكم إن إنقاذ فلسطين لا دخل للبنان واللبنانيين فيه، أمّا أنا فأقول لكم
إن مسألة فلسطين هي مسألة لبنانية في الصميم وشامية في الصميم وعراقية في الصميم وأردنية في الصميم تماماُ كما هي مسألة فلسطينية في الصميم، وإن فلسطين لا تتسع وحدها لجميع يهود العالم الذين تريد الصهيونية نقلهم اليها لإنشاء دولتهم عليها بعد قتل شعبها وتهجيره.
إن كتابك يا رفيق فؤاد يدفع شعبنا لإعادة تقييم مفاهيمه من مجمل ما يحيط به من قضايا وأحداث.
إن صراخ البعض اليوم ونداءهم أين العرب أين العرب أين الأمة العربية والإسلامية لهو صراخ ونداء في فراغ، لأنه نداء يفترض وجود عرب وأمّة عربية تعنيهم قضية فلسطين كما تعني أهلها وأهل بيئتها القومية السورية، لكن لا حياة لمن تنادي فالعرب في مصر وفي الخليج، والمسلمون في العالم، قد أثبتوا من زمان، مع استثناء نادر لا يُعوّل عليه، أن عروبتهم وإسلامهم لا يرقيان لمستوى الشعور أن فلسطين تعنيهم كجزء من وطنهم، بل كمسألة صالحة فقط للمساومة عليها. هذا عن الحكومات، أمّا شعوب العالمين العربي والإسلامي، بل شعوب العالم كله، فمشكور تعاطفها، لكن فلسطين هي بحاجة لأكثر من التعاطف. إن فلسطين هي بحاجة لوعي حقيقة انتمائها القومي. إن فلسطين هي جزء لا يتجزأ من الوطن السوري القومي المسؤول الفعلي وحده عن إنقاذها.
ها نحن اليوم ولهيب معركة غزة لا يزال مشتعلاُ، نرى بوضوح ليس بعده وضوح أن المقاومة اللبنانية هي التي هبت لمساعدة فسطين، والمقاومة العراقية هي من تفعل ذلك والشعب في الأردن هو من يفعل ذلك وهذا شيء طبيعي حتّمته وحدة الوطن ووحدة الانتماء إليه، فتحية للمقاومين الأبطال في جنوب لبنان وفي العراق وللشعب في ضفتي الأردن الغربية والشرقية، وتحية كبرى الى دمشق الجريحة حكومة وشعباُ لأنها رغم جراحها تبقى هي الرئة التي تتنفس منها المقاومة، وجراح دمشق لم تكن إلّا من أجل فلسطين. ولا ننسى رفع التحية الى الشعب اليمني الوفي الشجاع الذي يرد لنا الجميل بأفضل ما يكون رد الجميل والذي يقدّم أروع صورة لما يجب أن تكون عليه العروبة الحقيقية التي تعني مساندة اليمن في يوم اليمن ومساندة سورية وفلسطين في يوم سورية وفلسطين. وإن ننسى فلا ننسى الدعم السخي المبارك والمشكور من دولة وشعب إيران. إن لإيران مصالح في منطقتنا، نعم إن هذا صحيح، لكن الغرب كلَه والشرق كله عنده مصالح في منطقتنا، وشتان بين من تتعارض مصالحه مع مصالحنا ومن تتلاقى مصالحه معنا.

وفي هذه المناسبة نقول إن شعار “وحدة الساحات” الذي يرفعه المقاومون وجمهورُهم اليوم لموجودٌ مصدرُه في مبادئ سعادة، وتحديداُ في المبدأ الأساسي الثاني الذي يشير الى أن جميع المسائل التي لها علاقة بأرض سوريّة أو جماعة سوريّة هي أجزاء من قضية واحدة غير قابلة التجزئة أو الاختلاط بشؤون خارجية يمكن أن تلغي فكرة وحدة المصالح السورية ووحدة الإرادة السورية.
أمّا الذين ليس لديهم هذا الوعي لحقيقة وحدة الوطن السوري الطبيعي ووحدة الحياة والمصالح والمصير فيه، فيشنون حملة سياسية على هذا المبدأ وعلى ترجمته الحديثة اليوم بشعار وحدة الساحات.
إن الساحات هي في الواقع والحقيقة ساحة واحدة وحّدتها دورة الحياة الواحدة في الوطن الواحد، أي هي واحدة طبيعياُ وواقعياُ، وليس من العقل والحكمة وليس من السياسة الصحيحة الصائبة نكران الواقع الطبيعي أو التنكر له. إن سياسة النعامة التي تدفن رأسها في التراب ظناُ منها أنها بذلك تأمن عدوها لأنها لا تراه، هي سياسة فاشلة لا تدري أن عدوها يراها وهو قادم لقتلها. إن لبنان كله يقع بين النيل والفرات، حيث إن شعار الصهيونيين هو أرضك يا إسرائيل من الفرات الى النيل.
إن اليهود الصهيونيين أنفسهم ينظرون إلينا ساحة واحدة وهدف استراتيجي واحد، فما بالنا نحن لا نرى أنفسنا إلا جماعات مستقلة عن بعضها!! إن الذين منّا يعارضون وحدة الساحات إنما يعارضون واقع الأمور ويرفضون ما حتمته الحياة الواحدة والمصير الواحد في الوطن الطبيعي الواحد. إن المسألة ليست مسألة رأي واختيار، بل هي مسألة طبيعية لا تمكن مقاومتها. وأكثر من ذلك نقول إن العالم كله اليوم يكاد يصبح ساحة واحدة تتصارع فيها مصالح الأمم والشعوب، ومن لا يشترك في هذا الصراع تضيع مصالحه ويصبح لقمة هينة في فم المتصارعين.

لكن كيف للذين لم يستطيعوا إدراك وحدة الساحة الصغرى أن يدركوا وحدة الساحة الكبرى! ونعني: كيف لأحفاد سايكس وبيكو الذين لا يرون لبنان واللبنانيين مجتمعاُ واحداُ وساحة واحدة، أن يروا الساحة القومية الكبرى ساحة واحدة؟!

جاء سعاده وقال لهم أن التعايش هو صفة القطعان وليس صفة الإنسان، وأننا أمة واحدة ومجتمع واحد ولسنا قطعاناُ بشرية، ويجب علينا فصل الدين عن الدولة وإزالة الحواجز الاجتماعية والحقوقية بين مختلف الطوائف والمذاهب الدينية وإن اقتتالنا في الأرض على السماء قد أفقدنا الارض والسماء معاُ، فقتلوه!

أن دافع شريدي لوضع كتابه هو المساهمة بالكلمة في تحرير فلسطين، ونحن نقول له ولكم إن تحرير فلسطين لن تقدر عليه القطعان البشرية المتعايشة طائفياً، حيناُ، والمتقاتلة على الأرض والسماء حيناُ آخر. بل تقدر عليه الأمة حيث الأمة هي المجتمع الطبيعي الواحد الذي وعى وأدرك وحدة حياته ووحدة مصالحه ومصيره في هذه الحياة.