لقد قامت العقول المهاجرة بدور رئيس في عهد الحضارات القديمة حيث تم نقل أهم انجازات البلد الذي هاجرت منه الى البلد الذي استقرت فيه، وأوجدت تفاعلا خلاق بين الحضارات منذ القدم، وبخاصة بين الفلاسفة والعلماء المنتمين الى مختلف الحضارات التي اختلطت ببعضها البعض.
ان هجرة الكفاءات أو موضوعٌ هجرة العقول قديمٌ متجدّد يعدّ ظاهرةً كونية، تستفحل سنةً بعد أخرى، وتتفاقم جيلا بعد جيل.
هذه الظاهرة هي أساسا من دول الجنوب إلى دول الشمال، وبشكل أخصّ من الدول النامية إلى الدول الغربية المتقدمة.
الخوض في هذه الظاهرة تفرضه اليوم الأرقام التي تضاعفت بعد جائحة كورونا، فمع تضاعف “الطلب” من الدول المتقدّمة، خصوصا في المجال الطبي والتكنولوجيا، نرى أيضا تضاعف “العرض” من الدول العربية التي شهدت انتكاسة الربيع العربي وتراجع كلّ تجارب التحول الديمقراطي فيها.
لذلك يستوجب الاستمرارَ في بحث هذه الظاهرة ودراستها من حيث الأرقام المرتفعة والكلفة الكبيرة لهذه الظاهرة التي تثبتها الإحصائيات والدراسات، كما وجب مواصلة الاهتمام بالموضوع والعمل عليه.
تحكم هذه الظاهرة متطلبات السوق العالمي وقواعد العرض والطلب فيه، فالدول المستفيدة تضع سياسات مغرية لانتقاء الكفاءات وجلبها. الولايات المتحدة مثلا وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا وألمانيا وفرنسا جميعها تستقطب الأطباء والمهندسين والباحثين الجامعيين وغيرهم من الكفاءات،
ويذ كر تقرير رسمي حول العمالة العربية المهاجرة أعدته مؤسسة العمل العربية وجرى توزيعه على وزراء العمل العرب ان عدد حملة الشهادات العليا فقط من العرب المهاجرين الى امريكا واوروبا يبلغ 450 ألف عربي وهكذا يذهب انتاج هذه العقول الجاهزة ليصب مباشرة في اثراء البلدان المتقدمة ودفع مسيرة التنمية فيها فيما يخسر الوطن العربي ما أنفقه على صناعة هذه العقول ويخسر مساهمتها في تحقيق النهوض الاقتصادي والتنموي للوطن ولشعوب العربية.
يعود تضاعف حجم هجرة الأدمغة والكفاءات العربية إلى أسبابٍ أخرى عديدةٍ ومتشابكة. حيث توجد كثير من عوامل الطرد.
وتمثّل الأسباب الاقتصادية أهمّ الأسباب، فلا يخفى على أحد أن الدخل المادّي ومحفزات الارتقاء المهني تبقى عاملا فاعلا في هجرة أي خبرة عربية. لكن العوامل السياسية أيضا وازنة، فضيق هامش الحريات الشخصية والسياسية والتضييق على الناشطين والمثقفين والمبدعين والوضع الأمني الذي يتسم بعدم الاستقرار أو الصراعات والحروب في بعض الدول كلها عوامل محددّة. وكذلك العامل الاجتماعي الذي يشجّع الكثيرين، لما هو متاح للمهاجر وعائلته من امتيازات الصحة وتعليم الأبناء والإقامة الدائمة والحصول على الجنسية في أحيانٍ كثيرة.
أن هجرة الكفاءات العربية تترك فراغا سياسيا وثقافيا يصعُب ملؤه. أضف إلى ذلك تداعياتٍ اقتصادية كبيرة، وهي خسارة صافية في اتجاه واحد لأهم عناصر الإنتاج (العنصر البشري)، دول عربية عديدة استثمرت في هذا الرأسمال البشري، ثم قدّمته مجانا على طبق من فضّة إلى الدول الغربية.
لا يصمد أمام كل هذه المغريات إلا قلة قليلة من الخبرات العربية التي تعاني إجمالا من وضع سيئ يمتاز بثقافة المحاباة والزبانية والحرمان من عمل في التخصّص والبيروقراطية والتعقيدات الإدارية وتهميش للبحث العلمي وسياسات الابتعاث الفاشلة وضعف القطاع الخاص وشبه غياب لروح المبادرة والإبداع.
انعكاس هذه الظاهرة على مستوى التنمية:
فبعد الاستثمار المكلف جدا للعائلة وللبلد تغادر هذه الخبرات مواقع ومسؤوليات متقدّمة في منظمات ومؤسسات ووزارات، الشيء الذي غالبا ما يُحدث ارتباكا كبيرا في الإدارة والمؤسّسات في القطاعين، الخاص والعام. إذ لهذه الظاهرة انعكاس وخيم على مستوى التعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية.
للحفاظ على الكفاءات التي قد تُغادر أو استرجاع الكفاءات التي غادرت:
لا يوجد حلّ سريع، نهائي وجذري، وليس مطروحا أصلا التفكير في إيقاف الهجرة ولا في عودة مكثّفة للمهاجرين. لكن مساحات العمل والفعل تبقى اليوم واسعة. فبادئ ذي بدء، لا مناص من العمل على قاعدة بياناتٍ دقيقة، مفصّلة ومكيّفة زمنيا لهذه الخبرات، حتى نعي ما نقول ونعرف عمّا نتحدّث.
لا يمكن انتظار أن يستفيق الحكام ونترقّب نهاية الصراعات وصمت المدافع والرشّاشات، وأن تكفّ هراوات البوليس في بعض الدول العربية …
إذا فعلنا لضاع جيل أو جيلان قادمان.
فكل المعلومات والمعطيات متوفرة عند الإدارة في كل الدول (لدى وزارات التعليم العالي والبحث العلمي ووزارات الهجرة ووزارات الشؤون الخارجية والجامعات والمستشفيات والمخابر…).
فحريّ بها، إذن، العمل على قاعدة البيانات التي قد تتطوّر إلى إحداث مراصد وطنية للكفاءات والخبرات في الخارج، وهذا ما ييسّر تمتين العلاقات وارساء شبكات، خصوصا مع المهاجرين المتحمّسين وهم كثر.
وسيسهّل ذلك إنشاء جمعيات وروابط وغيرها من أشكال عمل جماعي، يؤسّس لعمل استشرافي يعزّز من فرص الاستفادة من الخبرات والعقول قبل أن تذهب هدرا.
وفي الإطار نفسه، على وزارات الخارجية والبعثات القنصلية في الخارج مزيد من الحرص على التجميع ومتابعته ورصد الجسور ومدّها مع الكفاءات في الخارج وتوفير العناية والتسهيلات والمرافقة لها.
ويقترح هنا، وبالتنسيق مع وزارات التعليم العالي والبحث العلمي، تكليف قسم أو شخص من الفريق الدبلوماسي للعناية بهذه الخبرات التي تعتبر أعلاما وسفراء البلد في ميادين اختصاصها، فما بال السفارات والقنصليات تعجّ بأعداد الموظفين المسؤولين على مختلف القطاعات: الاجتماعي والاقتصادي والثقافي … ونهمل هؤلاء؟
باحث في الشأن الاقتصادي _سورية