ربَّما أعطى أنطون سعاده عبارةَ العزِّ معنىً راسخاً، عندما قالَ:
إنَّ الحياةَ كلُّها وقفةُ عزٍّ فقط.
وقد طبَّق قولَه على مسارِ حياتِه، فاستُشهِد وكان قدوةً ليس في الاستشهاد فحسب، بل في الفكرِ النهضوي والموقفِ القومي والسلوكِ الإجتماعي والحياة المقاومة لكلّ العوامل السلبيَّة وكل الأطماع الخارجية والنزعات الفردية.
وحتى لو لم يكُن لكلِّ فردٍ منا القدرة على سلوكِ هذا المسار، لكننا بِتنا نتداولُ العبارةَ في كل المناسبات، ونردِّدُها بطريقةٍ آلية.
ولهذا نسمعُ تردادَ عبارة العزّ في يومياتنا، فنُعايَدُ بعباراتٍ مثل (تعيّد بالعز، أو يربوا ولادك بعزّك) الخ.
ولكن أنُدْركُ نحنُ المتداولونَ بالعبارة ما معناها وما هي مضامينُها؟
فإذا اعتَدْنا الكذبَ المجاني دون سبب أو مُبرّر، فيما حقَّ لنا عدمَ البوحِ بما قد يُسيءُ إلى خصوصياتِنا وخصوصيات سوانا.
واعتدْنا الخنوع والقبول بأية شروطٍ مُذلّة لقاءَ مصلحةٍ أو إستفادةٍ ما.
وتركْنا بلادَنا أمام عدوانٍ فاجرٍ، في حالٍ من التشرذُم والجهلِ والتخلّف والفقر والفوضى، دون أن نحاول مساعدتَها في ما أمكنَنا فعلُه.
وإذا لم نرقَ في سلوكِنا إلى مستوى إنساني شَهم وصادق وشُجاع.
كيف لنا أن نوهمَ أنفسَنا بأننا نحيا بالعز، وبأيِّ عزٍ سوف نحيا في هذا الحال؟
بأيّ عزٍ سوف نحيا، وكلّما تعاملنا مع بعضِنا تقعُ المشاكل الناجمة عن قلّة الأخلاق والجشَع والنِفاق ويُعتادُ في أحسنِ الأحوال: الإهمال وتعظيم الذات، وتربيح الجميل دونَ تلبيةِ المطلوب.
فنلطّفُها بعباراتِ الإنشغال، والنسيان، وسوء التفاهُم، أو سوء الاتصال.
لم يكُنِ الاتصالُ بتاريخ البشرية واضحاً بقدرِ ما هو عليه اليوم، ولم يكُنِ الشرحُ مُفهماً بقدرِ ما هو عليهِ اليوم.
وليس النسيانُ أو الإنشغالُ في غيرِ محلِّه إلاّ من بابِ الإستصغار.
ولأنَّ الاتصال المُعاصِر المُعرَّف بالتواصُل طبعاً عبر التقنيات الحديثة وشبكات الإتصال، سهَّلَ الإفهامَ المُعرَّف بدورِه بقاعدة البيانات.
ولأنَّ غالبية تعامُلِنا أمسى إفتراضياً، ولأنَّ الإفتراض يتضمَّنُ نواحيَ سلبية إلى جانب الإيجابية، كالتشويه والتضليل والتحريف والمبالغة، لا يُضرُّ بنا التنويه باهتمام الناس القديم – الجديد.
حيث كانَ لكلِّ قبيلةٍ أيّام الجاهليةِ، شاعرٌ مهمّتُه مدحُ القبيلة وهِجاءُ غيرها من القبائل.
حتى قال الشاعر دِعبل الخزاعي الكوفي:
يموتُ رديءُ الشعرِ من غيرِ أهلِهِ وجيِّدُه يبقى وإن مات قائلُه
أمّا اليوم فلقد استُعيضَ عن دورِ الشاعر الجاهلي بالمؤثِّر أو ال(influencer)، فيما لكلّ حزبٍ أو دولةٍ أو حتى شخصيةٍ ذي صفة عامّة، أفرادٌ أو مجموعاتٌ يتولّون إعلامياً والكترونياً القيامَ بنفس الأدوار لقاءَ مبالغ مدفوعة.
ولكلِّ إنسانٍ متابعٍ رأي وتعليق ووسيلة تواصل.
فلا يضرُّ بي بالتالي وفي هذا الحال أن أضيفَ قولين للشيخ سعيد الشرتوني وحِكمتَين لابنتِه أنيسة، دُوِّنا منذ ما يزيدُ عن المئةِ عام:
إنَّ اشتِهاركَ بمؤاساةِ من أذلَّهم الدهرَ بعد العزِّ، وخفضَهم بعد الرفعةِ وأفقرَهم بعد الغِنى، عزَّز عندي دليلَ الإحسانِ وقوَّى برهانَ الإستجابة.
وأمَّا الولدُ الذي عانقَه الحظُّ وأتاهُ حسنُ البختِ بوجهٍ هشاشٍ بشاشٍ، فقد عبسَ في وجهِ السعدِ واختارَ الذلَّ على العزِّ والفقرَ على الغنى رعايةً لجهلِه.
حزبُ الصدقِ في كلِّ زمانٍ قليلُ وهو في عصرِنا أقلُّ من قليلِ.
لا يُغلَبُ الحقّ وإن قلَّ أنصارُه.
فيا بني أمّي كما دعاكُم جبران، إمَّا أن تُقلِعوا في الخُلاصة عن استعمالِ هذه العبارة أو تطَؤوا مستوىً جديراً باستعمالِها.