الرسالات الدينية وتفاعل أبناء وبلادنا

نال تاريخ الهلال الخصيب من طمس ما لم تنله بقعة اخرى من العالم ولا يعود ذلك فقط للبعثات الاستكشافية الغربية التي بمعظمها تحاول إبراز الغرب كمصدر للحضارة الحديثة بل ايضاً لحكام هذه المنطقة الذين بمعظمهم يفتقد لشرعية الحكم ويحاول كل منهم عدم الاصطدام مع ما خلفه الفكر الديني لا سيما آخر تجلياته.
يجمع الاركيولوجيون ان ملامح الحضارة التي نعيش في ظلها اليوم انبثقت من الهلال الخصيب مع اخوته في حوض النيل وغيره من مجاري ومصبات الأنهر الكبرى. لكن الذي ميز الهلال انما التدجين، المعزق والدولاب ولاحقا التجارة، الابجدية وركوب البحر إضافة إلى ذلك بداية طرح الاسئلة الوجودية وماهية الحياة.
مع قيام المدنيات وتشابك العلاقات كان لا بد للأسطورة التي بدأت مع اكتشاف النار ان تتحول شاهد على المعاملات، اغضابها ينتج عنه غضب الطبيعة وإذا لم تستقم العلاقات يمكن ان يؤدي إلى الإفناء كما في حالة الطوفان.
في المدينة ظهر التشريع والذي اليه ينسب البعض الدين، دان، يدين، دين ومدينة. العائلة العشيرة والقبيلة ليست بحاجة لتشريع مدون فالعرف والعادة ومزاج الاب وزعيم العشيرة والقبيلة هم الذين يقررون المصائر لعدم وجود الاخر الذي قد يكون لديه أعراف وعادات اخرى. التجمع المدني صاغ هو تشريعه للتباينات بين أعراف وتقاليد قاطنيه لذا عندما جاءت الشريعة الموسوية نراها تتكلم عن بديهيات التجمع. وإذا ما علمنا ان ما بين موسى النبي وشريعة حمورابي هناك فرق خمسة قرون لصالح الأخير يمكن استخلاص ان من توجه إليهم موسى لم يقطنو مدينة من قبل. وما نجده لدى ما دعيت لاحقاً بالمسيحية نستخلص ايضاً ان تلك الشريعة بقيت على بدائيتها في نبذ الاخر وممارسة دموية ما زلنا نلمس أثرها لتاريخه خصوصاً بعد عملية اعتراف الكنيسة بالعهد القديم ودمجه مع العهد الجديد الذي يمكن ان لا يصل القارئ لتفحصه وهو منهمك بمجازر وخرافات العهد القديم مما يحول دون إشاعة المحبة والتراحم كما جاء في التعاليم.
اكتمل التشريع الديني مع المحمدية ولمن يتفحص هذا التشريع والتفسير للحياة والكون يجد قبس من تشريعات وتفسير سابق في كل من اليهودية والمسيحية لكنه يخرج الأسطورة التوراتية حيث قال عنها بانها قصص الاولين”وقصصنا عليكم احسن القصص “،لن ندخل في المغزى الروحي للأديان إلا اننا لا نستطيع ان ننفي تأثيرها على مجتمع الهلال الذي قرأ فيها وحدانية الخلق وأعلى مراتب المناقبية التي على الفرد التحلي بها،كما لو قلنا اليوم في المجتمعات الحديثة ان الالتزام بالأنظمة والقوانين تجعل من الإنسان شخصية سوية. فلا صراع مع الدين من حيث هو مرجع للإنسان الذي يبحث عن خلاص الروح.
جمود التشريع الديني وتعارض بعض التفسيرات إذا لم نقل جلها مع العلم أدى إلى صراع دموي خاضته المؤسسات الدينية على خلافها مع معتنقيها الذين رأوا ان ما تفعله هذه المؤسسات تحديداً بعد اصبحت تقبض على السلطة الزمنية يتناقض مع رسالتها في الاساس،بحيث اقرت لنفسها لزوم ما لا يلزم وحجبته عن الآخرين،فمناقبية موسى تحولت إلى خاصية لقوم بعينهم ومحبة عيسى حجبت عن الذين لا ينصاعون لأوامر الكنيسة ليس بالبعد الروحي بل وبالزمني فقد عارض بابا روما قرار الإنكليز بإنهاء الاستعمار بأفريقيا وشهدنا نظام جنوب أفريقي آخر معاقل الاستعمار كيف حظي ببركة بابا روما لان هذا الأخير كان يعتبر العرق الأسود نجس او ماشابه.وفي بلادنا مع سقوط الآستانة يمكن اعتبار ذلك هزيمة للمقدس كسلطة زمنية مع حفاظ الدين كمقدس روحي لدى اهل الايمان.

كل ذلك يمكن إذا ما اعملنا العقل يرشدنا للبحث عن منهجية للتصالح مع تاريخنا بحيث نقتفي أثره في حقباته المتعددة منذ الزمن السحيق لنصل لخلاصة اننا ثمرة كل تلك الحقبات ولكل حقبة منها مسوغاتها ومفاعيلها، فأجدادنا الذين عبدوا النار او الأصنام او احوال الطبيعة هم اجدادنا كما الذين امنوا بوحدانية الخلق وسمو الروح المتحلية بأرفع المناقب ايضا هم كذلك. ما علينا فعله اليوم هو صياغة نموذج حياة مكان الاخر محفوظ كونه من ابداع الخالق ذاته لأهل الايمان منا ومبدأ المساواة بين البشر لمن لديه تفسير آخر للحياة والكون. وهذا ليس عصياً علينا لان مبدأ التفاعل الذي قام منذ المدنية الاولى هو ما سرنا عليه وشهدنا ما شهدنا من إنجازات ان في البعد الروحي او في البعد الزمني لحياتنا منذ الزمن الجلي.