حوار مجلة صباح الخير-البناء مع د. ابراهيم خلايلي حول: دور سوريا في حضارة المغرب العربي الكبير (محطاته، نماذجه، مظاهره…) (نماذج ونقوش ودلالات أثرية من العصر الكنعاني)، الجزء الثاني 

د. ابراهيم خلايلي
حاوره إبراهيم مهنا
بدأنا الحديث في الجزء الأول من هذا الحوار عن محطات الحضارة الكنعانية السورية في المغرب العربي ونماذجها الأثرية التي تعكس الروابط والجذور مع سوريا القديمة، ونتابع الحديث في هذا الجزء الثاني والأخير، عن بعض النقوش الكتابية الكنعانية في قرطاجة ودلالاتها التي تعكس الحضور الثقافي السوري، بالإضافة إلى الحديث عن بقية محطات الحضارة الكنعانية السورية في المغرب العربي ونماذجها الأثرية…
-سؤال:
هل لك أن تحدثنا عن بعض النقوش الكتابية الكنعانية في قرطاجة ودلالاتها التي تعكس الحضور الثقافي السوري؟
-جواب:
أتاحت تلك النقوش تتبُّع تاريخ اللغة الكنعانية في سوريا القديمة والتطورات الطارئة عليها، ومن خلالها يمكن رصد الروابط اللغوية والحضارية وضبطها بين سوريا والمغرب لمدةٍ تتجاوز الألف سنة بعد نشوء أول معمرة كنعانية في المغرب العربي، وإلى فترةٍ تجاوزت ميلاد السيد المسيح بقرون…على أنه لم يبق في قرطاجة من الآثار المسطورة بالكنعانية سوى حوالي ستة آلاف نقش، بينما اندثر معظم محتويات مكتبات المدينة ومحفوظات معابدها عام 146 ق.م –سنة دمار قرطاجة على يد الغزو الروماني- ولم يبقَ من المؤلفات سوى نُسَخٌ مترجمة إلى اليونانية واللاتينية.
تقدّم النقوش المذكورة دلالات هامة تلقي الأضواء بوضوح على العلاقات والجذور الحضارية المشتركة بين سوريا والمغرب، وهي تتلخص فيما يلي:
1- الحياة الدينية: وتشمل الآلهة والفضاءات المقدّسة والوظائف والرُّتب الدينية، فمن خلالها عرفنا الآلهة المعبودين والآلهة الذين سجّلوا حضورهم في المغرب العربي، وجلُّهم ذو أصول سورية، أو يتّصل بتلك الأصول باسمه أو معاني اسمه أو وظيفته، فحملت النقوش أسماء كل من “تانيت” و”إل” و”بعل حمون” و”بعل شميم/السموات” و”بعل مجنم” وعشتروت” و”شدرفا” و”شمش” و”ملقرت” و”إشمن” و”صيد” و”كوشر/كوثر”…أما الفضاءات المقدسة التي تُطلعنا عليها تلك النقوش فلا تختلف عن تلك التي في سوريا ومنها “المقام” و”بيت الإله/المعبد” و”قدس الإله” والمقدس”…وبخصوص الوظائف والرتب الدينية، تشير النقوش القرطاجية إلى “خادم المعبد” و”الكاهن” و”كبير أو رئيس الكهنة”…
2-الحياة السياسية: ولعل أهم إشارة سياسية تقدّمها نقوش مدينة قرطاجة هي تلك التي تؤكد وجود “مجلس شعب” فيها (عم قرت حدشيت) أي (شعب قرطاجة) إلى جانب “مجلس شيوخ”، وهي معلومة أكّدها أيضاً المؤرخان “أرسطو” (384-322 ق.م) و”ديودوروس الصقلّي” (80-20 ق.م) ، وقد عرفت المدن الكنعانية السورية هذه المجالس، وأهمها على سبيل المثال “تدمر” وذلك من خلال كتابة مؤرخة في عام51م تذكر مجلس كل التدمريين (جبليا تدمريا كلهم).
3- الحياة الاجتماعية: وتشمل معلوماتها الوظائف والأنشطة الاقتصادية في المجتمع، كما تلقي الضوء على أسماء الأعلام والوظائف مثل “القاضي” (شفط) والصيدلي والتاجر والحرفي والمحتسب والنجّار…أما أهم أسماء الأعلام –والتي نجد مثلها في سوريا الكنعانية فهي “بعل يتن”، “أدن بعل”، “عزر بعل”، “حنبعل”، “عبد ملقرت”، “بد بعل”، “عبد صفن”، “عبد أشمن”، “جر عشتروت”، “أمت عشتروت”، “أمت ملقرت”، “متنا بعل” “علست”…
4- اللغة والكتابة الكنعانية: وأخيراً تقدّم النقوش المكتشفة في قرطاجة –والمغرب العربي عموماً- معلومات هامة عن الكنعانية السورية كلغة وكتابة هناك، وما شهدته من تطورات تُضاف إلى تاريخ أختها الكنعانية في سوريا وصولاً إلى القرن العاشر ق.م، وكانت تطورات عدة قد حدثت في أماكن مختلفة من سوريا مكّنت الأبجدية المعروفة من الظهور، ويمكن إدراجها في خطوات البحث عن اللغة الكنعانية وكتابتها في المغرب العربي، ومن هذه التطورات كتابات جبيل القديمة في الألف الثالث وبدايات الألف الثاني ق.م، وكذلك كتابات فلسطين العائدة إلى الألف الثاني ق.م، وكتابة سيناء، ثم أبجدية أوغاريت التي سُطرت بالمسمارية، وتكوّنت من ثلاثين رمزاً (27 حرفاً ساكناً و3 أصوات) ووُضِعت على رقيمٍ صغير.
وما هو مهم هو أن كتابة تاريخ اللغة الكنعانية في المغرب العربي لا بد وأن تتطرق إلى ما سبق من موجز عن تاريخ اللغة الكنعانية، كما لا بد من الإشارة إلى أن كنعانية المغرب العربي قد حافظت على أختها كنعانية سوريا من عوامل الفناء التي شرعت تؤثر عليها بدءاً من الفترة الهلنستية.
وفي هذا الإطار تعدُّ شهادة القدّيس أوغسطينوس -أسقف مدينة عنابة الجزائرية (354-430م)- شهادة غاية في الأهمية من القرن الخامس الميلادي حيث قال –في خضمّ حديثه عن قرطاجة-: “إذا سألت سكان بلد في إفريقيا من أنتم؟ يجيبون بالكنعانية إننا بنو كنعان!”…ومن أدلّة أوغسطينوس على ثبات الكنعانية واستمرارها في الربوع المغاربية، ذكره لمهنة “المترجم بهذه اللغة”، ورسالة منه إلى البابا “سليستن” يرشّح فيها رجلاً يتقن هذه اللغة لشغل منصب أسقف مدينة “فسالة”، حيث الكنعانية لغة الناس فيها آنذاك …وفي مثال آخر يذكر أوغسطينوس أن أحد الأساقفة من زملائه سمع كلمة “سلوس” من أحد الريفيين، وهي تعني بالكنعانية المغربية “ثلاثة” مما يدل على تداول هذه اللغة، ومما يشير إلى الكنعانية الأم، فكلمة “شلوش” بالكنعانية السورية تعني ثلاثة أيضاً مع اختلاف بسيط في اللفظ، وهذا الاختلاف مألوفٌ في عاميّاتنا، وعلى سبيل المثال فكلمة “جوز” يلفظها بعض سكان ريف دمشق على شكل “زوز” تماماً كما يلفظها التونسيون اليوم…
وأخيراً ففي القرن السادس الميلادي يثبت المؤرخ البيزنطي “بروكوب” في كتابه “حرب الوندال” أن الأفارقة يتكلمون بلسانٍ كنعاني.
ومن كل ما سبق نستنتج أن العربية القديمة بلهجتها الكنعانية كانت لغة جزء كبير من المغرب العربي حتى وقت قريب من الفتح العربي، الأمر الذي أتاح للعربية الفصحى الانتشار بسهولة في تلك الربوع.
-سؤال:
ماذا عن بقية محطات الحضارة الكنعانية السورية في المغرب العربي ونماذجها الأثرية…؟
-جواب:
-مدينة كركوان:
تقع مدينة كركوان الأثرية –التي انطلقت أولى الحفريات فيها عام 1953-على بعد 12 كم شمال مدينة قليبية الساحلية التونسية، ويعود تأسيسها إلى القرن السادس ق.م، وقد كانت هذه المدينة على اتصال مباشر مع أخواتها الكنعانيات في سوريا، ولعل من أهم مكتشفاتها – كحاضرة كنعانية على الساحل التونسي- غرفة جنائزية ضمن أحد مدافن المدينة عُثر فيها على رسوم تصويرية تتحدث عن مصير الإنسان بعد الموت وشؤون الآخرة، الأمر الذي دعا الباحثين إلى وصف هذه الرسوم بأنها تمثّل “مدينة الأرواح”، ولعل رُقُم مدينة أوغاريت السورية قد أتت على ذكر ذلك قبل ألف سنة من تأسيس كركوان…وقد كشفت حفريات عام 1966 في المدينة عن قالبٍ صلبٍ من حجر “الأردواز” (السجّيل) -محفوظٍ في متحف الموقع- يعود إلى النصف الأول من القرن الثالث ق.م، يستعمل لصب المعادن ويحمل شكل مستطيلين غائرين نٌقش عليهما شكل غصن.. وهذا النوع من القوالب سجّل حضوره بكثرة في مصر وفلسطين، مما يؤكد أن البحر المتوسط كان بحيرة كنعانية سورية بجدارة، أما سفن الكنعانيين فكانت ناقلةً للتأثيرات أكثر من البضائع، وهي تأثيرات استمرت طويلاً بل إنها مهّدت فيما بعد للفتوحات العربية.
-نماذج من الحضور الكنعاني في الساحل الأطلسي المغربي
استناداً إلى المصادر التاريخية، فقد كانت “ليكش” (ليكسوس) –”لكس” بالكنعانية المغربية”- مركزيةً بالنسبة إلى تجارة الكنعانيين المبكرة في ساحل المغرب العربي على “الأطلسي”، وتشير المصادر الكلاسيكية إلى أهمية تلك السوق التي أُسست عام 1180ق.م، أي قبل “قادس”، وقد تم التعرّف على موقع “ليكش” في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وهي تقع على بعد 4كم –إلى الداخل- شمالي ضفة نهر “لوكوس”…وهذا الموقع الذي تم الكشف عنه في الهضبة العليا لتل “تخيميخ” قدّم شواهد معمارية على حضور كنعاني مبكر، وقد تبيّن أن أقدم معابد “ليكش” (Apsis,H,) يعود إلى القرن الأول ق.م –وهي فترة الملك النوميدي “جوبا الثاني”، وقد اتّضع الميناء أسفل الطرف الشرقي لتل “تخيميخ”.
ويرى باحثون أن تأريخ هذه المعمرة في أواخر القرن السابع ق.م ممكنٌ استناداً إلى لقى متفرقة من أوانٍ فخارية كنعانية ذات طلاء أحمر -تميّز القرن المذكور- عُثر عليها في أعلى الهضبة.
وقد كانت “ليكش” نقطة عبور إلى الأراضي الغنية بالمعادن، حيث عتبات جبال الأطلسي الغنية بمصادر الذهب والنحاس والحديد والرصاص، وخلف “ليكش” –على طول ساحل مليء بالموانئ الطبيعية-فإن آثار التجارة الساحلية الكنعانية متناثرة في كل مكان، ولعل أوضح الشواهد على الحضور الكنعاني عُثر عليه في “سالا”، وهي سوق انتصبت داخل البلاد عند مصب نهر “بورقراق” بالقرب من قلب العاصمة “الرباط”، وفي هذا الموقع عُثر على بقايا بناء من الحجر المنحوت، بالإضافة إلى فخار كنعاني ذي طلاء أحمر يعود إلى الفترة ما بين القرنين السابع والسادس ق.م.
وعلى بعد حوالي 400كم خلف “سالا” –وإلى أقصى الجنوب”- كان ثمة منشآت كنعانية على طول الساحل المغربي…وفي جزيرة “موغادور” بخليج “السويرة” كشفت التنقيبات عن مخيّم ساحلي موسمي قطره خمسون متراً تقريباً دلّت عليه بيوت وأكواخ صغيرة.
إن الطبيعة التجارية لموغادور ظهرت من خلال اللقى الفخارية التي تضمنت كمية كبيرة من كسرات الأواني ذات الطلاء الأحمر، وقد كانت عشرون منها مسطورة بكتابات كنعانية، وإلى جانب هذه الكسرات عُثر على جرار فخارية إغريقية بالإضافة إلى فخار قبرصي.
إن “موغادور” التي سجلت نشاطاً من عام 650 إلى عام 500ق.م مثل “سالا” في الشمال، قامت بدور ثانوي كمركز للتجارة مع السكان الأصليين داخل المغرب…واستناداً إلى نقوش “موغادور” الكنعانية وأنماط الفخار، تبيّن أنها أُسست من قبل كنعانيي سوريا، أو من قبل كنعانيي “جديرة” التي أسسها الصوريون، أما فخار “موغادور” فمطابق بشكل خاص لفخار المعمرات الكنعانية الأندلسية.
-سؤال:
هل من كلمة ختامية لهذا الحوار تلخص أهم النقاط في موضوع الدور السوري في حضارة المغرب العربي الكبير؟ وما هي التوصية التي يمكن تقديمها لمراكز البحوث العربية وجمهور القراء؟
-جواب:
لقد سعينا في هذا الحوار إلى تقديم صورة جديدة للكنعانيين السوريين في المشرق والمغرب، ومن ضمنهما المتوسط والأطلسي، وقد اتضحت معالم هذه الصورة أكثر من خلال الحديث عن الحضور الكنعاني السوري في المغرب العربي وغرب المتوسط، والواضح من خلال المعطيات أن شواهد الحضارة الكنعانية في المشرق والمغرب قد دُمِجَتْ في إطار واحد هو تلك الحضارة الكنعانية التي شغلت سنوات الألف الأولى ق.م في جزء كبير من العالم القديم امتد من سواحل سوريا وتجاوز مضيق جبل طارق، فالبحّارة الكنعانيون والقرطاجيون وصلوا إلى ما وراء “أعمدة هرقل” على طول السواحل الأطلسية لإسبانيا والمغرب العربي، كما أن البحّار القرطاجي “حيملك” اجتاز القناة الانكليزية الواقعة على طول الساحل الجنوبي لبريطانيا، بل إن مدى التوغل الكنعاني داخل الأطلسي وصل إلى جزر “أزوريس” (Azores) االبعيدة، استناداً إلى نقد قرطاجي مؤرخ في سنة 330 ق.م، عُثر عليه في جزيرة تقع في عرض الأطلسي، هذا فضلاً عن دوران الكنعانيين حول أفريقيا في مطلع القرن السادس ق.م وإبحارهم خلف البحر الأحمر، وإبحار القائد القرطاجي “حنون” على طول الساحل الغربي لأفريقيا في النصف الثاني من القرن الخامس ق.م، حيث وصل إلى “سيراليون” “والكاميرون” و”غابون” في خليج غينيا، ثم أنهى رحلته في “رأس جوبي” في الحدود الجنوبية للمغرب…أما هذه المنجزات الحضارية ذات الهوية الكنعانية -بجناحيها السوري والمغربي- وعلى اختلاف أنواعها، فتُسَجَّلُ لعصر النهضة الكنعاني انطلاقاً من أواخر الألف الثاني ق.م، كما تحمل بصمات عصر البرونز المتأخر الكنعاني، فوثائق أوغاريت والعمارنة في العصر المذكور تشير إلى وجود استمرارية في حقول الاقتصاد والثقافة واللغة والديانة مع عصر الحديد المبكّر الذي شهد الانطلاقة الكنعانية الجديدة نحو المغرب العربي وغرب المتوسط، واللذيْن بدورهما سجّلا تلك الاستمرارية الكنعانية في الحقول الحضارية ذاتها، بما يقدِّم سوريا والمغرب في الألف الأولى ق.م كوحدة تاريخية وحضارية متكاملة، أساسُها “الكنعانية” كجذور حضارية ولغة.
وختاماً فالعبث بمعطيات سوريا القديمة –وعلى رأسها المعطيات الكنعانية- يهدّد منظومة البحث الخاصة بتلك الحضارة بالخلل والتشويه في شُقّيها المشرقي والمغربي، ولعلها إشكالية بحث كبيرة…لذا فالمهمة التي تقع على عاتق مراكز البحوث والأكاديميات المعنية في المشرق والمغرب هي تحصين معطياتها الأثرية والتاريخية ورصد المحاولات الاسرائيلية والغربية المضادّة وضبطها والتصدي العلمي لها وتعريتها محلياً ودولياً، وتعزيز التواصل العلمي بين تلك المراكز والأكاديميات وإقامة ورشات العمل الخاصة بالموضوع، مع دعم البحوث الخاصة بوحدة العناصر الحضارية بين الطرفين وتطويرها.
وقد اعتمدنا في هذا الحوار على معلومات نوعية وجديدة استندت إلى أهم المكتشفات ونتائج التنقيبات في سائر أنحاء العالم الكنعاني في المتوسط والأطلسي، بالإضافة إلى أهم المؤلفات والدراسات التاريخية والأثرية واللغوية المتخصصة، والتي صدر أغلبها في كل من الشام ولبنان وتونس وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا .