الأخلاق الصحيحة تمتاز بخصالها الحميدة وفوائدها الجليلة ودورها البنّاء في نهوض المجتمع.. والحق نقول، أنه لا إصلاح حقيقي ولا نهوض للقوميات ولا حياة للأمم بدون الأخلاق. وبهذا المعنى، يقول العلّامة الدكتور خليل سعاده ان “حياة الأمم بقلوبها النابضة وأخلاقها الراقية”.
قبل الشروع بمشروعه الإنشائي النهضوي، درسَ أنطون سعاده واقع مجتمعه الذي يعجُّ فيه الفساد والضلال والفوضى والتخبّط، فوجدَ انحطاطاً في المناقب عزَّ نظيره وانتشاراً فظيعاً للقبائح والرذائل والمُثل المنحطّة والمثالب الهدّامة ولاحظ وجود عوارض كثيرة لهذا الواقع المريض المُنهك بالعصبيات والانقسامات والحزبيات الدينية والمشلول بفساد الأخلاق وذهاب الثقة ورسوخ اليأس في النفوس.. ولاحظ أيضاً أن النفسية العامة في الأمة هي نفسية خنوع واستسلام وخوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في المناقب والأخلاق. وعلّلَ سعاده أسباب هذا الواقع الانحطاطي بما تعرّضت له الأمة من حوادثِ تاريخيةِ قاسيةِ خلالَ عصورِ طويلة من الاستعمار والتقهقر والانحطاط، فسادَ الجهل والتضعضع والفقر والذل وغاب التفكير بالهناء العام وبخير المجموع ومصلحته. هذا الويل الذي كان يتخبط فيه الشعب، وما زال، منتقلاً من ضيق إلى ضيق، أدى بسعادة إلى تأسيس حزب قومي والشروع بعملية الإنقاذ والنهوض.
وضع سعاده أساساً مناقبياً جديداً للأمة السورية الناهضة بالمبادئ الجديدة، معتبراً ان مسألة الأخلاقِ هي “من أهم مسائل النهوض القومي بعد تأسيس فكرة الأمة وبعد تعيين المقاصد الكبرى.” والحق يقال ان حزبه السوري القومي الاجتماعي يقوم على ركيزة أساسية متينة هي الأخلاق الجديدة التي نجدها في صلب العقيدة القومية الاجتماعية، لا بل هي والعقيدة وجهان لحقيقة واحدة هي المبادئ المناقبية السامية. وهذه الحقيقة يؤكد عليها سعاده بقوله ان “العقلية الأخلاقية الجديدة التي نؤسسها لحياتنا بمبادئنا هي أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة، لمقاصدها، ولأعمالها ولاتجاهها.”
شدَّدَ سعاده على أن العقلية الأخلاقية الجديدة تُشكِّلُ قيمةً أساسية في الحياة وشرطاً ضرورياً وأساسياً لنجاح أية مؤسسة او أية خطة سياسية او حربية او إدارية أو إقتصادية. وبرأيه، ان وجود الأخلاق شرط ضروري لبقاء المجتمع وارتقائه، وبدونها لا يمكن للأمة ان تنهض وتبني عظمتها. “فالأخلاق الضعيفة والمثالب النفسية قلما قدرت على النهوض بأمة، أو تغيير حالة شعب سيئة” لأنها أخلاق مثالبية، تمثيلية، مساومة، لا يهمها تغيير حالة الشعب بل هي مستعدة دائما للقبول بالوجود على ما هو عليه من ضعف وتضعضع وقبح وذل وانحطاط. إنها أخلاق قوم أنانيون تعودوا على الخنوع والاستسلام والتسكع والعيش الذليل. أما الأخلاق القومية الجديدة فهي أخلاق صراعية، غائية، معنية بالتغيير والإصلاح والإرتقاء للأفضل والأجمل. إنها أخلاق قوم يشعرون بالشرف الحقيقي والكرامة الفعلية ويسيرون على طريق العز والفلاح والمجد للأمة لأنهم آمنوا ان “الحياة لا تكون إلا في العز”.
في شرحه لغاية الحزب يؤكد سعاده على أهمية الأخلاق قائلاً: “في رسالات وخطب ومحاضرات عديدة وجهتها إلى القوميين الاجتماعيين أظهرت كم هو أساسي وضروري فهم العقلية الأخلاقية الجديدة التي تؤسسها تعاليم الحزب السوري القومي الاجتماعي” لأنه إذا لم نتمتع بأخلاقية متينة فيها صلابة العزيمة وشدة الإيمان وقوة الإرادة فلا يمكننا أن نحقق غايتنا النبيلة ولن نحصد إلا التشويش والإخفاق وخيبة الأمل.
والأخلاق القومية الإجتماعية الجديدة هي عدّة الحزب السوري القومي الاجتماعي للتغيير، لا بل هي رأسماله الكبير. وسعاده يصف حزبه بحزب الأخلاق ويعتبره “حركة تجديدية في المناقب والأخلاق، كما فى النظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.” ويقول: “إنّ نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في الحياة قبل كل شيء آخر.” وهذه الأخلاق الجديدة ليست أفكاراً مجرّدة او صوراً شعرية، بل هي قيم مناقبية جميلة تفيض بها النفوس وتنهض بها الأمم والقوميات. فهي القوة الروحية المحرّكة للصراع من أجل تحقيق الغايات السامية والعمل للخير القومي العام الذي “هو أجمل المثل العليا للحياة الإنسانية.”. لذلك يقول سعاده: “نحن جماعة عمل وصراع، لأننا في حقيقتنا جماعة أخلاق.” ويُعتبر الواجب القومي من أهم دعائم هذه الأخلاق الجديدة وشرطاً من شروط تحقيق غاية الفلاح والعز لهذه الأمة. والحق يقال، ان أية أمة لا تبقى وترتقي إلا بأداء الواجب. فالواجب هو مبدأ أخلاقي بإمتياز و”بقدر قيام الأفراد بواجبهم يقاس رقي الأمة.” ونحن، كما أكّدَ سعاده “لم نتلكأ عن واجب لأن الواجب مبدأ أساسي من مبادئنا الأخلاقية.”
إن النهضة القومية الاجتماعية جاءت بالمبادئ الجديدة لإعادة تأهيل المجتمع السوري بسحق مثالبه الفاسدة التي تزِّيفُ حقيقةَ نفسيةِ الأمةِ الأصليةِ وإحياء المناقب الجميلة وتحقيق حياة أجمل للأمة في عالم أجمل تسوده القيم الإنسانية والأخلاقية العليا. لذلك يؤكد سعاده ان “الحركة القومية الاجتماعية لم تنشأ لخدمة الموتى وإحياء المثالب، بل نشأت لإحياء المناقب الجميلة السامية وقتل المثالب لتحيا أمة عظيمة بأجيالها المتجددة بالتعاليم الجديدة المحيّية.” ولكن ما هو الفرق باختصار بين المثالب والأخلاق الجديدة:
المثالب هي الضلال وفساد الحقيقة وانتشار القبائح والرذائل وهذه لا تؤدي إلا إلى اليأس والهلاك، أما المناقب الجميلة فهي الهدى وانتصار الحقيقة والسمو إلى العُلى وهذه تؤدي إلى خلود أهل الحياة والاجتماع الإنسانيين.
الأخلاق المثالبية هي أخلاق الكذب والرياء والنفاق. أما الأخلاق القومية فهي أخلاق الوضوح والصراحة والصدق والحق والخير والجمال. والأخلاق المثالبية هي أخلاق البغض والتخاذل والغدر والخيانة والحنث باليمين وفسخ العقود. اما الأخلاق القومية الجديدة فهي أخلاق المحبة والإخاء والتسامح والعطاء والمسؤولية الأخلاقية والإلتزام المناقبي، أخلاق الصراع والتضحية والفداء.
الأخلاق المثالبية هي أخلاق النفوس الضعيفة الذليلة التي تهرب من المسؤوليات و”ترتد عن الأمور العالية الصعبة” لأنها أخلاق الخوف وذهاب الرجولة والتراجع وانعدام الثقة بالنفس واليأس الكلي. اما الأخلاق القومية الجديدة فهي أخلاق النفوس الصحيحة التي تعتمد مبدأ العمل الجدي و”تطلب دائماً الأسمى مهما يكن من أمر الصعوبات الحائلة دون بلوغه” لأنها أخلاق الرجولة والبطولة والأمل والعزائم والثقة بالنفس والجرأة والشجاعة والمروءة والإقدام. لذلك يؤكد سعاده على ان -“العزائم الصحيحة لا توجد في النفوس التي غلبت مثالبُها مناقبَها.” إن غاية المناقب الجديدة هي تحقيق السعادة والمنفعة والخير لكل المجتمع وإقامة الحياة الجميلة، الحرّة، الراقية. وكما يقول سعاده: “نحن لا غايات عندنا متفرقة، بل غاية واحدة”، هي “خير الشعب وعزّه.”
سعادة المعلم – القدوة كان خيرَ مدرسةٍ في الإرشاد الأسمى وفي الأخلاق. لقد دعا القوميين الاجتماعيين إلى الالتزام بالسلوكٌ المناقبيٌّ الذي يجب أن يُمارس في حياتهم. فبرأيه، إنَّ المسلكية الأخلاقية العالية ومزاولة الفضائل الجميلة والمناقب الجديدة يجب أن تسيطر على جميع أعمالهم وأفكارهم فتنتزع من صدورهم القلوب الفاسدة وتضع لهم في مكانها “قلوباً جديدة تخفق بالإيمان والثقة والمحبة وفعل الواجب والتضحية.” وعبّرَ سعاده عن تمسكه بالأخلاق القومية الإجتماعية قائلاً: “إني لا أفرح بكثرة إلا إذا كانت صحيحة المناقب والأخلاق القومية الاجتماعية. كما أني لا أحزن لقلة إلا إذا كانت نتيجة فَقْدِ ذوي المناقب والأخلاق القومية الاجتماعية.”
ختاماً، قد تكون الأخلاق حملاً ثقيلاً لا تضطلع به إلا النفوس العظيمة، ولكن، الحق يقال، لا يمكن الانتصار على المثالب المنحطّة والأنانيات الحقيرة ولا يمكن النهوض بالمجتمع وتحقيق حياته المثلى إلا بالأخلاق الجديدة، أخلاق أبناء الحياة المصارعين، المؤمنين، الصادقين، الذين لا تثنيهم شدائد وصعوبات ولا يهابون الموت بل يرحبون به متى كان طريقاً إلى الحياة.. هؤلاء المصارعون الواعون الذين لا يرضون إلا حياة الأحرار، سيدوسُونَ على مساوئ المجتمع وعلله ويقضون على سفالة الأنانيات الفردية ومفاسدها ويسيرون على طريق العز والفلاح والمجد للأمة.
