لم يكن الأول من أذار طقساً جامداً نحييه شكلاً، بل نهج حياة متكامل ذو أبعاد شاملة تتناول نهضة الأمة والمجتمع بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
ومعاني الأول من أذار تتجاوز ولادة الشخص، اذ أنها تتماهى مع ولادة “النحن”. انه مفهوم متكامل يتناول الهوية وتعريفاتها، الوعي القومي ومرتكزه المفهومي في الهوية، ويتناول الصراع المربوط بالوعي والمقترن بالارادة والمعطوف على الفعل في ميادين الصراع.
ما يهمنا، هو تأكيد راهنية الأول من أذار من زاوية محاكاته لقضايا الحاضر وتحديات المستقبل.
بهذا المعنى، الأول من أذار يمثل محطة مفصلية في تاريخنا المعاصر اذ أنه يعبر تعبيراً أميناً وصادقاً عن ولادة الوعي القومي النهضوي.
في هذا التاريخ تتماهى “الأنا” مع “النحن”، فسعاده الزعيم والقدوة لم يعد شخصاً في حد ذاته بل تماهى هذا الرجل في شخصية أمته وأحدث “القاعدة المجتمعية الأساس – الانسان –المجتمع”.
بهذا المعنى، الأول من أذار تحول الى قاعدة معرفية تشكل الأساس لحركة النهضة، لذا يأتي احياؤنا لمعانيه احياءً لهذه القاعدة المعرفية التي تشكل محور حركة نضالنا القومي الاجتماعي لتثبيت وتحقيق وتعميم مفاهيم النهضة القومية الاجتماعية.
في المراحل التاريخية الفاصلة من التاريخ، لا تنهض الأمم والشعوب بالارتكاز الى رؤية مجتزأة للحياة، بل استناداً الى منظومة فكر شامل يتناول حياة الأمة بأسرها.
في هذه المناسبة، أسئلة كبرى نطرحها حول راهنية الأول من أذار في الوعي وفي الممارسة والسلوكيات الناتجة عن هذا الوعي.
هل كنا على مستوى فكر الأول من أذار؟ هل ما زالت النهضة التي أطلقها سعاده تستوعب كل المتغيرات في السياقات الزمنية والمكانية؟ هل ما زال فكر الأول من أذار صالحاً لاستيعاب متغيرات العصر؟ وهل المؤسسات الحزبية التي أوجدها سعاده ما زالت قادرة على حمل أفكاره حاضراً وفي المستقبل؟
ثمة قواعد جوهرية أوجدها سعاده “المبادئ هي قواعد انطلاق للفكر وليست قوالب جامدة”، “المبادئ للشعوب وليست الشعوب للمبادئ”، “العقل هو الشرع الأعلى في المجتمع”، وعندما نطرح هذه القواعد الجواهرية اليوم نطرح السؤال معكوساً “هل ممكن أن ننهض دون العقل شرعاً أعلى يقود حركة التنوير والتطوير والتثوير والانطلاق الى الأمام؟ هل نستطيع بناء حاضر ومستقبل لأبناء أمتنا خارج منطوق “المبادئ للشعوب وليست الشعوب للمبادئ”.
النقلات النوعية في حياة الأمم تحتاج الى نوع مختلف من التفكير النقدي خارج السائد، وهذا بالضبط ما يعطي لفكر الأول من أذار قيمة مضافة واستمرار اشعاع هذا الفكر في تقديمه للحلول المرحلية المرتبطة بحركة الصراع، وللتجديد المستمر للفكر في محاكاته للواقع تحت سقف المسلمات الفكرية والعقدية.
راهنية الأول من أذار ما زالت مستمرة وبقوة بما يفتح الأفق أمام أي تطور أوتقدم في المستقبل، راهنية تتجسد في حله اشكالية الهوية والانتماء، اذ كيف يمكن أن نثبت على أرض الصراع والهوية تعاني تصدعاً مشهدياً لا وضوح رؤية فيه.
راهنية الأول من أذار تتجسد في شموليته البعد المدرحي في فهم علاقة الانسان مع الانسان، وفي فهم علاقة الانسان مع البيئة، هذه العلاقة التفاعلية البناءة الرحبة أوجدت الأساس العملي لوحدة الحياة ولحل كل اشكاليات الانقسامات الأفقية والعامودية، الروحية والمادية، وأوجدت الأرضية لحل كل مشكلات الأقليات الطائفية والمذهبية والاتنية والعرقية على قاعدة التفاعل والوحدة في دورة اقتصادية اجتماعية صاهرة وجامعة لكل أطياف المجتمع الواحد الموحد.
راهنية الأول من أذار في الفهم العميق للعلاقات بين الأمم أي على المستوى الفوق – قومي انطلاقاً من حقيقة كون هذا العالم – عالم أمم وشعوب ومجتمعات متمايزة في الثقافات ومتمايزة في الحضارات ومتمايزة في النظرة الى مسائل عديدة ولكنها جميعاً تتلاقى في رحب الانسانية الجامعة، ولكن على قاعدة حفظ الذات والهوية وحماية المصالح الحيوية لكل مكونات هذا العالم.
راهنية الأول من أذار في فهم متميز للشأن الاقتصادي باعتباره ركيزة من ركائز الاجتماع البشري، يقول سعاده: ” الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى”،وهو يعتبر أن المسألة الاقتصادية هي مسألة مفتوحة على تطورات الحياة الاقتصادية نفسها، والحلول الاقتصادية ترتكز على قواعد حماية مصلحة المجموع القومي ولكنها أيضاً تخضع لظروف الزمان والمكان، ومستوى التطور الانتاجي – الاقتصادي، فالحلول الجاهزة غير ممكنة في الاقتصاد، كما قولبة النظم الاقتصادية مسألة تخطاها الزمن، وكذلك دور الدولة ومستوى تدخلها في العلاقات الاقتصادية تقررها الظروف، فلا الرأسمالية الجشعة الغير انسانية أوجدت حلولاً مستدامة لأزمات الواقع الاقتصادي، ولا الأنماط التي قدمتها الماركسية المادية حققت انجازات هامة على مستوى حل اشكاليات الواقع الاقتصادي المأزوم.
راهنية الأول من أذار في فهم طبيعة الصراع الوجودية مع كيان الاستيطان اليهودي في فلسطين ومآلاته المستقبلية.
الأول من أذار باختصار هو مشروع “عقلنة” المجتمع، و”العقلنة” –بهذا المعنى- مسارٌ معرفيٌ أخلاقي في مقاربة مشكلات الواقع الاجتماعي بتشعباته وتعقيداته ومناحيه واتجاهاته المختلفة، وهو المسار الآمن الذي تعتمده الأمم الحية التي تسعى الى التقدم والتنمية وحل المشاكل بعيداً عن الانفعال والتعصب والانجراف وراء الغرائز والأهواء…
ثمة حاجة حقيقية لأن نرسي هذا المنهج العقلاني العلمي لكي يساعدنا على قراءة الواقع الذي نحياه بغية رسم “خارطة طريق” لمستقبل أجيالنا التي ولدت، أو التي لم تولد بعد…
وهذا تحدي كبير…هل نكون على مستوى هذا التحدي؟
الأمين زهير فياض