برسم العالم الجديد، مأزق الليبرالية والرأسمالية

بالإضافة إلى كتابات رورتري وغيرها من قلب المنظومة الليبرالية والرأسمالية، التي فضحت الطابع المتوحش للرأسمالية وفشل الليبرالية، ثمة أربعة كتب لباحثين من قلب هذه المنظومة، صدرت عن عالم المعرفة في الكويت، لا في كوبا أو فنزويلا أو إيران أو سوريا أو روسيا أو الصين، هي:
لماذا فشلت الليبرالية لـ(باتريك دينين).
انهيار الرأسمالية (أولريش شيفر).
زمن الغضب.
إعادة النظر في النظام الدولي الجديد لـ(يورغ سورنسون).
لماذا فشلت الليبرالية
كتاب لـ(باتريك دينين) الأستاذ في جامعة نوتردام، من إصدار عالم المعرفة 2020، يستعرض التاريخ السياسي الاجتماعي لليبرالية وكيف نشأت وصولاً إلى فشلها.
في تعريفها العام تركز الليبرالية على الحريات السياسية بالتلازم مع حرية الأسواق وتناهض أي تدخل للحكومات، بالرغم من مزاعمها حول الحياد، وبحسب الكتاب، فقد انتهت الليبرالية إلى الفشل الذريع حتى في مزاعمها حول احترام الذات الفردية في بعدها الإنساني، ومن ذلك:
خضوعها للمادية الوضعية المبتذلة وعدم الاكتراث بل مواجهة الثقافة والعلوم الإنسانية من حيث التركيز على العلوم والتكنولوجيا والرياضيات وإدارة الأعمال، وتفريغها من محتواها الاجتماعي الإنساني والثقافي.
تغطية الغزو الشامل للطبيعة ثم الإنسان نفسه وتجريده من أي تاريخ اجتماعي ثقافي، فبعد استبدالها وانتهاكها الفظ للفضاء الطبيعي استبدلت مفهوم الطبيعة البشرية أيضاً، وراح الإنسان يتعرض لتشوهات كبيرة كخليط من اللعب بالهندسة الجينية، ومن الإنسان الآلي، وفق ملاحظات نيل بوستمان في كتابه (تكنوبولي).
بناء نظام يجعل المكان قابلاً للاستبدال وبلا معنى.
افتراض الليبرالية بأن البشر يولدون أحراراً عوضاً أن يتعلموا كيف يصبحون أحراراً.
خضوع النظام التمثيلي لسستم عام يخضع بدوره لقوى وهيمنة غير مرئية من ميكانيزمات الأسواق والبورصات.
تكريس الطابع الطفيلي لدورة رأس المال على غرار طائر الوقواق، الذي يترك بقية الطيور ترقد على بيضه بعد أن يكسر ويرمي بيضها.
تحولها إلى فرانكشتاين جديد (نسبة إلى رواية ماري شيلي)، وبحيث لا يمكن السيطرة عليه.
لا تقتصر الأسواق الحرة في الفهم الليبرالي على الحرية المطلقة بحد ذاتها، بل إن أحد أهدافها هو تحرير الأفراد من روابطهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
ثقافياً، قبل الليبرالية كانت الثقافة أكثر التقنيات البشرية انتشاراً وتأثيراً في التعليم، فيما ما يحدث اليوم هو خضوع الثقافة لتعليم مبرمج مجوف من أي بعد جمالي أو إنساني، وتحولها إلى أحادية تسمح بتحويل الأفراد إلى قابلين للاستبدال داخل نظام سياسي اقتصادي مهيمن.
فشل الليبرالية
مقابل إعلان فوكوياما انتصار الليبرالية، وذلك في مقالته عن نهاية التاريخ 1989، فالأدق أن أحد المنشقين الروس الذي صدق الليبرالية، هو الذي شكك بانتصار الليبرالية وهو الروائي سولنجنستين صاحب رواية (دكتور زيفاغو) ناهيك بنعي الليبرالية عبر (فلاسفة كبار) من الأزمنة الرأسمالية المختلفة، من بنتام (الحقوق الطبيعية والمساواتية هراء محض) إلى شتراوس والفلسفة النفعية الأمريكية (الصحيح لا تقرره صناديق الاقتراع بل المصالح).
تنتج الليبرالية أمراضاً مستوطنة بنحو أسرع وأكثر انتشاراً من قدرتها على معالجتها.
حول المرأة التي تسوقها الليبرالية كنموذج لنجاحها، يقول دينين: إن الكذبة الكبرى هي التي تربط بين نقد الليبرالية وبين عودة المرأة إلى العبودية السابقة، فالمكاسب التي حققتها النساء فعلاً تلاشت في قلب الشروط الرأسمالية المتوحشة للعمل وخاصة بالنسبة للنساء، كما في قلب كذبة التمثيل السياسي الذي يدار عملياً من القوى الرأسمالية النافذة.
كما يرى دينين أن المؤسسات الجديدة التي ولدت مع الرأسمالية تحولت عملياً إلى سجن كبير حوّل الاغتراب الإنثروبولوجي القديم إلى اغتراب سلعي، ومن السهل ملاحظة أوجه الفشل الذريع لليبرالية من خلال أمراضها المستعصية، من سوء توزيع الثروة وفساد المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وفقدان الثقة بالصحافة والإعلام وارتفاع الخيبة إزاء عدالة حقيقية.
أما كتاب يورغ سورنسون (إعادة النظر في النظام الدولي الجديد)، فيعترف بفشل الليبرالية وعجز المسارات التي راهنت عليها متروبولات الرأسمالية في توفير الشروط الأساسية للديموقراطية والمجتمع المدني، لأن هذه المتروبولات واصلت سياساتها الكولونيالية في (الدول الحليفة لها) التي تم تسويقها كدول مستقلة بعد الحرب العالمية الثانية، بل إنه حتى التحديث الصناعي الذي شهدته بعض هذه البلدان لم يمنح أغلبية الناس سوى أقل القليل. ويضيف الكتاب أن العمليات الديمقراطية فقدت ديناميتها في المتروبولات المركزية نفسها، التي راحت تخضع بالتدريج لمصالح مستترة للنخب السائدة.
الرأسمالية
الرأسمالية وآفاقها: من الكتب التي تتحدث عن مأزق الرأسمالية من داخلها، كتاب أولريش شيفر، وهو إصدار عالم المعرفة، حيث يناقش واقع وآفاق الرأسمالية والسوق الحرة المطلقة، بدءاً بأشهر مفكريها الذين يرفضون أي تدخل للحكومات في الاقتصاد ويعتقدون أن السوق قادرة على تجاوز أية أزمات بنيوية:
ميلتون فريدمان (مدرسة شيكاغو) صاحب كتاب (الرأسمالية والحرية)، والمستشار الاقتصادي للطاغية بينوشيت الذي أطاح بإدارة منتخبة في تشيلي 1973، وتسبب بمقتل واعتقال مئات الآلاف بينهم الرئيس نفسه، سلفادور الليندي، وقد نال ملتون دائزة نوبل مع (رفيقه) الثاني في فلسفة السوق.
فريدريش فون هايك (مدرسة النمسا) صاحب كتاب (دستور الحرية) وشريك ملتون في جائزة نوبل وتبرير الإبادة دفاعاً عن حرية السوق الرأسمالي، وتنسب له جمعية مونت بليرين التي تشكلت كما دافوس في منتجع في سويسرا.
ومن غرائب الاقتصاد الرأسمالي أن اثنين من كبار المضاربين في البورصة، هما كينز وسوروس يدعوان لتدخل الدولة في الاقتصاد حفاظاً على النظام الرأسمالي وخوفاً من انهياره.
يشار كذلك إلى محاولات هذا النظام بين الحين والحين، ترميم نفسه على طريقة الأمريكي رولز صاحب كتاب (نظرية في العدالة) الذي يتقاطع مع أفكار كينز في جوانب عديدة.
بيد أن المحاولات الرأسمالية لتجديد الرأسمالية تتآكل المرة تلو المرة لأسباب عديدة على رأسها التناقضات الداخلية الموضوعية ومنها:
التناقض بين السمة الأساسية للرأسمالية وهي التطور التقني وبين آليات السوق، فمع كل تطور تقني يخرج الملايين من سوق العمل سواء أكانوا من الياقات الزرقاء أو اليبضاء.
التناقض بين المركز والمحيط الرأسمالي، فكلما تخلصت المتروبولات أو المراكز الرأسمالية من خطوط إنتاج أقل تطوراً مع التكنولوجيا الجديدة، ودفعها نحو المحيط، كلما تشكلت في المحيط قوى منافسة أكثر توازناً، كما هو الحال في الصين بفضل سياسات التوازن الاجتماعي والاقتصادي.
الميل الموضوعي للنظام الرأسمالي للهرب من أزماته نحو حلول خطرة مثل الحروب ومجمعات الأسلحة المدمرة التي صارت تهدد العالم كله بما فيه العالم الرأسمالي نفسه. ومثل الاستثمار في قطاعات غير منتجة مثل الدوران المالي والعقارات.
تركز المتروبولات الرأسمالية في القطاع البنكي والمالي مما يوسع أزماته الدورية، ومما ينعكس سلباً على القطاعات الصناعية.
من تناقضات الرأسمالية المحاولات العقيمة التي تصطدم مع العولمة من خلال العودة إلى الحماية الجمركية، كما حاول ترامب، مما دفعه إلى الصدام مع جيرانه في اتفاقية النافتا (المكسيك وكندا).
التناقض بين الشكل السياسي الحالي لدول المتروبولات الرأسمالية الموروث من نظريات العقد الاجتماعي في القرن السادس عشر، وبين التحولات الاقتصادية الاجتماعية ما بعد المجتمع الصناعي وما بعد (الحداثة)، وتكمن أهمية ذلك في أن الرأسمالية لم تستمر بعذا الزخم لولا تسخيرها للدولة أيضاً في الدفاع عنها، كما لاحظ لوفيفر.
ويشار هنا إلى العديد من الكتب الهامة، الأمريكية والأوروبية، مثل كتاب (تحول السلطة) للأمريكي توفلر، وكتاب (المجتمع ما بعد الصناعي) لآلان تورين، وكذلك كتابات برتران بادي.
كما يشار إلى عشرات المقالات والدراسات التي تعاين واقع الطبقة الوسطى وتفسخها، وكذلك تراجع التعليم الحكومي لصالح تعليم خاص لا تستطيع فئات أمريكية وأوروبية واسعة مواكبته من زاوية اقتصادية.
هذا فيما يخص الأبعاد الداخلية لأزمة النظام الرأسمالي، أما فيما يخص الأبعاد الخارجية، فالعالم اليوم يتغير فعلاً نحو عالم متعدد الأقطاب بفضل العوامل السياسية والجيوبوليتيك المرتبط بها على غرار المشروع الأرواسي الروسي، وطريق الحرير الصيني، وهما المشروعان اللذان تحولا إلى كرة ثلج دولية تستقطب المزيد من التحالفات الإقليمية والدولية وتضاعفان من دور وقيمة القوى الجديدة، سواء في بعدها السياسي المحوري أو بعدها الاقتصادي.