مع بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كان مفاجئاً للخبراء والمراقبين الحجم غير المسبوق من العقوبات التي فرضتها أميركا والغرب على كافة القطاعات الروسية والتي لم تسثني حتى الرياضة والفنون في تعبير صارخ عن مستوى العداء الذي اظهره الغرب تجاه روسيا واكّد للجميع ان المعركة هي معركة وجودية بالنسبة لأميركا والغرب لجهة ادراكهما ان الخطوة الروسية ما هي الا بداية مسار طويل اعلن عنه بوضوح بعد شهريم من العملية كل من الرئيس بوتين ووزير خارجيته لافروف بان هدف المواجهة الأول هو الحدّ من الهيمنة الأميركية ولو ان هذا الهدف بما يمثله من ابعاد استراتيجية في تاريخ الصراع تمت عنونته بأهداف أدنى ترتبط باوكرانيا بشكل مباشر ولكنها تتجاوزها في الآفاق والمسار والأهداف .
الإعتقاد الأولي لدى الخبراء كان يتخوف من عدم قدرة روسيا على تحمّل العقوبات وبالتالي بدء انهيارات متتالية في الاقتصاد الروسي بعد استكمال مرحلة الإستنزاف التي أعلنت عنها اميركا والغرب بشكل واضح من خلال امداد أوكرانيا بكميات كبيرة من الأسلحة النوعية بهدف إطالة امد النزاع والتأثير في قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود والإستمرار في دعم الجيش الروسي ما سيجبر موسكو على الخضوع والذهاب الى المفاوضات وهي في وضع الضعيف .
في المقابل وبعد مرور 9 اشهر على العملية الروسية تشير المعطيات الى صمود غير مسبوق في مختلف المجالات سواء الاقتصادية او النقدية ولم يتم ملاحظة مؤشرات خطيرة في التضخم إضافة الى تحسن كبير في سعر صرف الروبل الروسي مقابل الدولار الأميركي وهو تحسن ليس بسيطاً حيث كان سعرف الصرف يبلغ 107 روبلات لكل دولار في حين انه وبعد الشهر الأول للعملية بدأ بالإنخفاض ليصل في الشهر الحالي الى 61 روبل مقابل كل دولار وهو أمر يمكن تفسيره من خلال الإجراء الذي اتخذته القيادة الروسية بالزام الدول والشركات الأوروبية بالدفع بالروبل الروسي مقابل الغاز والسلع الأخرى .
هذا الإجراء كان بمثابة صدمة على القيادتين الأميركية والغربية حيث بدأنا نتابع تظاهرات واحتجاجات شعبية في اغلب دول أوروبا مقابل استقرار مجتمعي في روسيا .
الأوروبيون انفسهم اتخذوا قرارات وفرضوا على روسيا عقوبات اقل ما يقال فيها ان تأثيرها سيكون بنسبة تتجاوز 80 % عليهم وعلى استقرارهم الاقتصادي والنقدي حيث تسود نسب تضخم غير مسبوقة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي تمثل كبرى اقتصادات أوروبا ، وتمثلت هذه الإجراءات بالعديد من القرارات المتعلقة بالتمنع عن استيراد الغاز الروسي على الرغم من عدم ابداء روسيا أي رغبة في هذا الشأن .
لم تقتصر الأمور على القرارات والعقوبات بل تعدّتها الى تفجير خطوط انابيب نقل الغاز والتي كشفت موسكو منذ يومين عن تنفيذ عمليات التفجير بواسطة قوات خاصة بريطانية ، واذا ما صحّت المعلومات الروسية فهذا يعني ان قراراً اميركياً – بريطانياً أُتخذ على مستويات عالية بهدف حرمان موسكو من إيرادات الغاز المتوجه الى أوروبا لتحقيق خسائر في الاقتصاد الروسي يمكن ان تساهم في حصول مزيد من المشاكل الاقتصادية في روسيا والهدف هو تعميق الأزمات لتصل الى حدود المس بالإستقرار المعيشي في المجتمع الروسي الذي لا يزال مستقراً ولا تشوبه متغيرات بالنسبة لأسعار الخدمات المختلفة والمواد الغذائية وغيرها من ضرورات الحياة .
إضافة الى ذلك أنجزت روسيا مجموعة من الإتفاقيات مع الصين والهند وايران في مجالات النفط ومجالات أخرى وتم تحريك اللقاءات السياسية والإقتصادية بشكل مكثف لتلافي السقوط في مطبات ومشاكل كبرى على الرغم من ان العقوبات على روسيا اثّرت بشكل ما لكن لا يمكن وصفها بالعقوبات المدمرة بل يمكن تجاوزها بخطط مواجهة مدروسة ودقيقة .
وهنا يمكن القول بانه على الرغم من اختراق روسيا في حصنها، إلَّا أنها لم تنهار ولم تستسلم حتى الآن. فضوابط رأس المال ورفع أسعار الفائدة من قبل الحكومة ساعدا في تجنب الأزمة المالية وانهيار الروبل. وبعد التراجع الأولي، تعافى إنتاج النفط الروسي وصادراته، مدفوعاً بزيادة ملحوظة في المشتريات من الصين والهند ودول آسيوية أخرى. كما أن البطالة لا تزال عند مستويات يمكن السيطرة عليها. التوقعات طويلة الأجل تقول إن الركود الاقتصادي سيعمّ في روسيا. ومع ذلك، سيكون الركود أقل كارثية مما تخيله كثيرون في البداية: فالبنك المركزي الروسي يتوقع الآن انكماشاً “أطول أمداً، وأقل عمقاً”.
في المقابل وحتى نكون موضوعيين لا بدّ من الإعتراف بأن الدولار لا يزال عملة رئيسية في التجارة العالمية ويمكنه الصمود لفترات ليست بالقصيرة بمواجهة المتغيرات التي تتخذها العديد من الدول بدفع بدلات التجارة بالعملات الوطنية .
وهنا لا بد من الإشارة ايضاً ان أوروبا ستكون اكثر تأثراً بنتائج الصراع ولكن يمكنها الصمود اقله خلال الشتاء القادم ولكن لا احد يضمن استمرار أوروبا كدول مجتمعة وموحدة وقادرة اذا ما احسنت موسكو استخدام سلاح الغاز رغم ان لا احد في موسكو يرغب حتى اللحظة باعتماد الغاز كسلاح الا اذا ذهبت الأمور الى مستويات اعلى واخطر في الصراع.
عمر معربوني | باحث في الشؤون السياسية والعسكرية – خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية