تايوان… بعد أوكرانيا: حرب نووية من جانب واحد!

نقرأ في كتب التاريخ المعاصر أن الحرب العالمية الثانية، بمعزل عن نتائجها الميدانية المعروفة، أسسّت لنشوء نظام عالمي جديد قائم على ثنائية “متفاهمة” على المنافسة المنضبطة:

ـ المعسكر الرأسمالي تقوده الولايات المتحدة الأميركية المُهيمنة على أوروبا، تحت شعار “العالم الحر”، وكذلك من خلال مشروع مارشال للتنمية الأوروبية. وكان هذا المعسكر يتمدد تدريجياً نحو جنوب شرق آسيا.

ـ المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي الذي جمع حوله مجموعة دول في أوروبا الشرقية، وكان يتقرب من حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية في ظل الإيديولوجية الاشتراكية الأممية.

هذه النظرة الأولية التبسيطية صحيحة أساساً، إلا أنها لا تعطي الصورة الكاملة التي نعتقد بأنها حكمت مسار السياسات الاستراتيجية الدولية على مستوى العالم لثمانية عقود ونيف.

نحن نرى أن تلك الحرب الكارثية أفرزت أيضاً ظاهرتين حاسمتين طبعتا السياسات الدولية. وبالتالي لا يمكن فهم أبرز الأحداث العالمية واحتمالاتها المستقبلية، إلا من خلالهما. وهما:

الأولى، إدراك أوروبا أنها لا تستطيع أن تنجرف إلى حروب مدمرة كل عقد أو عقدين من الزمن، كما في الحرب العالمية الأولى (الحرب الكبرى) والحرب العالمية الثانية. ولذلك يتوجب عليها أن تجد الأطر المناسبة لحل المشاكل الأوروبية الداخلية بالطرق السياسية والديبلوماسية، وتجنب الحرب على أراضيها مهما كان الثمن. (حلف شمال الأطلسي ـ الناتو، والاتحاد الأوروبي لعبا هذا الدور). والضمانة لهذا “السلام” يؤمنها الأخ الأكبر المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية.

الثانية، وهي الأهم، تتعلق بدخول السلاح النووي كقوة خارقة سواء للردع أو للحسم العسكري. فقد كشفت القنبلتان النوويتان اللتان أسقطتهما الولايات المتحدة الأميركية على المدينتين اليابانيتين هيروشيما ونكازاكي أن من يملك السلاح النووي سيكون قادراً على التحكم بمسار الحرب في حال وقوعها. وهذا يعني أن أي حرب بين دولتين نوويتين ستؤدي إلى خسارتهما معاً، أو على الأقل عدم انتصار أي منهما بسبب الدمار الهائل الذي يُحدثه السلاح النووي.

هاتان الظاهرتان، ببساطة، حققتا السلم داخل القارة الأوروبية من جهة، ومنعتا من نشوب أي حرب بين الدول النووية من جهة أخرى. لكن استمرار مفعول هذا الترتيب مرتبط بالنظام العالمي القائم على القطبية الثنائية. وطالما أن التوازن ثابت بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، حتى ولو اختل قليلاً لصالح الثاني، فإن التوترات الجيوسياسية كانت مقيدة بخطوط حمراء واضحة، ومتفق عليها من جميع الأطراف. وفي حال حدوث تصعيد بين تلك الدول، فإنه محكوم بالسقف الأعلى الذي هو امتلاك السلاح النووي مع ما يفرضه ذلك من  توازن للرعب. غير أن انهيار المعسكر الاشتراكي أبطل القطبية الثنائية، وأتاح للمعسكر الرأسمالي “المنتصر” مجال فرض هيمنته على العالم.

ونحن نستطيع ملاحظة أنماط محددة من الحروب، سواء في مرحلة ما قبل انهيار المعسكر الاشتراكي أو بعده. ونعتقد بأنها مستمرة حتى الآن، بانتظار نشوء نظام عالمي جديد يقوم على أنقاض “الفوضى المنظمة” التي وعدتنا بها واشنطن. ونستثني من بحثنا هذا الحروب ذات الأسباب المحلية أو الإقليمية، لنركز على المواجهات الاستراتيجية بين الغرب (الأميركي ـ الأوروبي ـ الأطلسي) من جهة وكل من روسيا والصين وحلفائهما من جهة أخرى.

لن تكون هناك حرب نووية بين دولتين نوويتين. أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا سنة 1962 كانت الأقرب لوقوع حرب نووية مباشرة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وعلى الرغم من التهديدات والتصعيد الكلامي، فقد عُولجت تلك الأزمة سياسياً. لكن هذا لا يعني عدم استعمال الدول النووية لسلاحها النووي ضد دول غير نووية. فقد استخدمت القوات البريطانية والأميركية اليورانيوم المنضب Depleted Uranium في العراق. كما وأن بعض الدول طورت أسلحة نووية تكتيكية لاستخدامها ضد أهداف محددة. ولذلك يجب أن لا نستبعد احتمال اللجوء إلى السلاح النووي في الحرب الأوكرانية… لكن ليس بين روسيا وأميركا، على سبيل المثال!!

وإذا كانت الحرب بين دولتين نوويتين غير واردة في ظل الأوضاع الراهنة، فإن الحرب بالوكالة قد تكون الأسلوب الأفعل لحل النزاعات. أوكرانيا تحارب روسيا نيابة عن “الغرب” النووي الذي يؤمّن التمويل والتسليح والخبرات القتالية. وقد تجد موسكو نفسها أمام معضلة استخدام السلاح النووي في حال تغيّرت المعطيات الميدانية لغير صالحها. ومثل هذا التوجه سيرتّب تداعيات عالمية بعيدة المدى.  وبالقياس على النموذج الأوكراني، فإن منطقة جنوب شرق آسيا مرشحة لأن تكون الساحة القتالية الأخرى.

ولا تخفي واشنطن نواياها السلبية تجاه الصين، إذ تُعلن على الملأ أن العملاق الآسيوي يشكل التحدي الاستراتيجي الأبرز للمصالح الأميركية في تلك المنطقة. وتمشياً مع “قاعدة” عدم التورط في حرب بين دولتين نوويتين، فإن مخطط الولايات المتحدة يقوم على إنشاء أحلاف محلية تدور في الفلك الأميركي. وستتولى تلك القوى المحلية مهمة مواجهة الصين نيابة عن الغرب (الأميركي ـ الأطلسي ـ الأوروبي) الذي يعزز تواجده في المحيط الهادئ… أي أنها ستلعب نفس الدور الذي تورطت فيه أوكرانيا!

ويبدو لنا أن تركيز واشنطن سيكون على اليابان في المرحلة الأولى، نظراً إلى مكانتها الاقتصادية وموقعها الجغرافي تجاه الصين. وقد لوحظ في السنوات القليلة الماضية نوعٌ من التغيير في العقيدة القتالية اليابانية، بتشجيع أميركي يناقض تفاهمات ما بعد هزيمة طوكيو في الحرب العالمية الثانية (كارثة القنبلتين النوويتين الأميركيتين). وهذا ما يفسر الزيادة في حجم صفقات الأسلحة الأميركية إلى اليابان وكوريا الجنوبية، في إطار برامج أوسع لتسليح دول أخرى مثل استراليا وأندونيسيا والفيليبين…إلخ.

لكن فتيل الانفجار سيكون من تايوان ذات الوضع الخاص. القيادة الصينية سوف تتعامل مع “عسكرة” اليابان بوصفها إزعاجاً حرجاً طالما أن قنوات التواصل مفتوحة بين طوكيو وبكين. أما تايوان فهي إقليم متمرد بالنسبة إلى الصين، ويجب أن تعود إلى حضن الوطن الأم. وعلى هذا الأساس، فإن أية خطوة تايوانية لإعلان الاستقلال أو أي تراجع أميركي عن مبدأ “صين واحدة”، سيكون “خطراً وجودياً” لا يمكن للقيادة الصينية التغاضي عنه. ومثلما رسمت موسكو الخط الأحمر الحاسم في أوكرانيا، فإن الخط الأحمر الصيني تجاه تايوان لا يقل حساسية على الإطلاق. ونحن نتوقع أن تطول معركة أوكرانيا، لأنها ستكون النموذج الذي يدرسه الغرب بهدف الاستفادة من تجارب الميدان الأوكراني… ولا شك في أن بكين تراقب وتتابع وتستعد، وقد تبادر هي إلى استباق الاستفزاز الأميركي فتكون لها الكلمة الفصل بسلاح نووي أو من دونه!

أما أوروبا، فلنا في مقال لاحق، عودة إلى أزمتها بعدما باتت الحرب على تخومها، بينما التطورات العالمية تهدد استقرارها وازدهارها. 

أحمد أصفهاني