تطوير الحزب….. بين مأزق الفكر  ومأزق الفهم .

يطل علينا البعض بين حين وآخر، بالتأكيد على  ضرورة تطوير الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقد ينجرّ البعض الى هذه الدعوات  دون تبصر أو تحليل،  ومنها ما يُنشَر من مقالات على صفحات الجرائد ويطرح هذه المسائل.

في ثوابتنا إن التطور قانون الحياة، وعليه فكل فكر يسعى إلى التطور هو فكر قابل للحياة، وكل فكر غير قابل للتطور هو فكر محكوم  بالاضمحلال والتلاشي. وكم كنت أتمنى لو أنّ الذين يطرحون هذا التصور قد اتمّوا صياغته في نسق فكري يليق بالنهضة وبمستوى أفقها وألقها، فيحقق الفائدة المرجوة!
أولى القواعد التي أرساها أنطون سعاده هي قاعدة التعيين والتحديد. وأول مسؤولية تقع على عاتق الداعين إلى التطوير، هو التحديد،  وبدقة، لموجبات التطور، وماهية المسائل التي تُعَدُّ بحاجة إلى تطوير، وعلى أية قواعد.

 وحتى لا يضيع المتابع في التحليل، يجب أولا تحديد  العناصر التي تؤلف هذا النسق وهي ذلك الحقل (فكرـ حزب ـ نهضة ـ حركة)، وسأعرض هنا لأربعة عناصر يمكن إسقاط موضع التطور عليها، وهي  الفكر والخطاب،  والأشكال المؤسسيّة أو المؤسسات والادوات  اللازمة، واستراتيجيات العمل للوصول إلى الغاية.

ما هو التطوير أو التحديث أو التجديد أو التغيير اللازم على مستوى كل من هذه العناصر؟ 

إذا استثنينا دراسة الدكتور ميلاد السبعلي عن الحزب في عصر المعرفة، فإنه يبدو لي، على حد علمي، أن ما تم تداوله هو جزء من حملة دعائية لا تمت إلى صلب الموضوع في شيء، أو نثرات غير مبنية على تصور عميق ذي مستوى فهم عال، وهذا يدل على أن الذي يقدم هذا الطرح، لم يقرأ سعادة، ولا تاريخ الحزب، ولا تطور العصر وتعقيداته وأزماته ومفاهيمه، والأيديولوجيات التي انتشرت خلال المئة عام الأخيرة، وطبيعة تطور الفكر وأزماته المتراكمة، ولا تعقد الاجتماع البشري الحالي في العالم  وتحولاته وتطور المفاهيم في الخمسين سنة الأخيرة، والصراعات الفكرية بينها. 

وأنا لو شئت أن أكون منهجياً، فسأبدأ في حيث الفكر: هل سقط  فكرنا؟ هل لما يزل صالحاً لمقاربة القضايا المحيطة ومعالجته وإعطاء حل للمشاكل التي تعترضنا؟ هل نحن في مأزق فكري يحتاج فيه فكرنا إلى التطوير لحل هذا المأزق؟ هل يمكن أن نسجل قصوراً لفكرنا في مقاربة أو معالجة بعض القضايا المطروحة الفكرية، أو ما يتفرع عنها من قصور عن التحليل والتفكيك والصياغة وفتح الأفق؟

فالماركسية مثلاً التي اعتبرت القومية أعلى درجات البورجوازية، إذا بها تتعاطى مع حركات التحرر العالمية التي ليست حركات بورجوازية، ما ألزمها  بتطوير قراءتها  كي تستطيع التعامل مع الحالة دون إرباك أو تناقض.

ولأن مسألة تطوير فكر الحزب ليست من صلاحية الفكر العادي ولا قدرته، بل من صلاحيات الفكر العالي، هذه المسلمة تُخرِج من هذا البحث جمهور الإدراك العالي، وتحمي التحليل من استبداد تدني الفهم أو سوء الفهم.

لنبدأ بطرح الأسئلة الآتية:

  1. ما هو الدافع أو الأسباب الموجبة للتطوير؟ هل يحتاج فكرنا إلى تطوير؟ هل صحيح أن سعاده تخطاه الزمن، كما سوّق البعض من خارج الحزب؟ هل يحتاج فهمنا الى تطوير؟
  2. ما هي المستويات التي يجدر تطوير الفكر فيها، أي على أيّ مستوى مطلوب التطوير؟

مستوى النظرة الأساسية؟ مستوى المنهج؟ مستوى المبادئ الأساسية؟ مستوى المبادئ الإصلاحية؟ مستوى القاعدة الأخلاقية  القائمة على أساس مصلحة سورية فوق كل مصلحة؟ مستوى القضية؟ مستوى الوسائل اللازمة لتحقيق الغاية؟ هذه الأسئلة هي التي تضع العقل في الموقع الصحيح.

واضح جداً أن من يتبنى هذا الشعار لم يَغُصْ في هذه المفاصل، وكما يتوجب على أصحاب الفكر العالي، وأصحاب الوجدان العالي، أن يعرضوا لموجبات التطور وموقعه وحدوده.

بعد استشهاد سعاده تعرض الحزب لأكثر من وافد فكري، كالاشتراكية (الماركسية أو غير الماركسية)، والثورية والعنف الثوري، والعروبة  بين الأنظمة والجماهير، واليسار ومفهوم الحتمية؛ والسؤال: كيف تعاطى جيل ما بعد سعاده مع هذه المفاهيم؟

 وبعد سقوط الشيوعية، وانهيار المنظومة الاشتراكية، دخلت إلى عالم الفكر مقولات العولمة، ونهاية التاريخ، وسقوط الأيديولوجيا؛ والسؤال: كيف تعاطى الفكر القومي مع هذه المفاهيم؟

الكارثة أنه إذا عدنا إلى تراث الدراسات والتحليل الذي يبيّن كيف قارب المفكرون القوميون والمثقفون هذه الأفكار الوافدة، وأهمها كتابات أسد الأشقر وإنعام رعد وهنري حماتي وشوقي خيرالله وعبدالله سعادة ويوسف الأشقر ومروان فارس وأحمد صالح ووسيم زين الدين غيرهم؛ نرى أنهم انقسموا جذرياً، وتسابقوا إلى تبني مقولات الاشتراكية واليسار والثورة، وضاعوا في ضبط حدود النظرة وتحليلها. ووصل الأمر ببعضهم إلى تبني مقولاتها، وكانت أقسى الردود الفكرية من “أبو واجب” في الرد على الرد. والباحثون القوميون مطالَبون بإعادة كتابة موقف الحزب الفكري والتاريخي من اليسار والاشتراكية والثورية وغيرها.

بعد هزيمة عام 67، تصدى الأمين هنري حماتي لمفهوم الكفاح المسلح، والأمين إنعام رعد للتنظير لحرب التحرير القومية، والأمين شوقي خيرالله لمفهوم حرب العصابات. أقول ذلك لأشير إلى أن مفكري الحزب واجهوا الأفكار الوافدة وحللوها وانتجوا البدائل النظرية المستقاة من فكرنا. أليس هذا تطويراً للفكر؟

لذلك إن أول أشكال التطوير الفكري هي في قابلية الفكر على التعامل مع المفاهيم أو النظريات الوافدة دون قصور، دون تناقض، ودون ارتباك.

سعاده في آخر عصر رصده هو عصر القوميات، السؤال: هل دخلنا في عصر ما بعد القوميات؟ هل العولمة هي عصر ما بعد القوميات؟ هل سقطت الهويات القومية المؤسسة على الجغرافيات الطبيعية-الثقافية التي تولدت فيها الهويات القومية؟ والعولمة هل هي عصر جديد؟ ما هي  مقاربة  الفكر القومي الاجتماعي لهذه الظاهرة؟

في رصده لتاريخ البشرية، أرّخ سعاده لثورتين: الزراعية والصناعية، وشرح كل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أنتجتها والبنى التي تأسست عليها. اليوم نحن في العصر الثالث، وهو عصر المعرفة، عصر الذكاء الاصطناعي، عصر ثورات الإعلام والمعلوماتية. ما هي قراءتنا لهذا العصر؟ ما هي التحولات والبنى الاجتماعية-الاقتصادية الثقافية الفنية التي أنتجته؟ هذا دور مفكري  الحزب. اليوم دخلنا في عصر المعرفة، كيف يتعامل الفكر مع هذا التحول؟ هذا هو التحدي الذي قاربه الدكتور ميلاد السبعلي في كتابه: الحزب في عصر المعرفة؟

  إن التطور الذي استجرّه عصر المعرفة قد طال كل البنى، وعليه يظهر تقصير المفكرين القوميين في التفكيك والتحليل والمواجهة.

لو غصنا في الموضوع لقلنا: إن سعاده صاحب فكر شامل، ونظرة الى الحياة والكون تتعاطى في الاساس الاجتماعي كله، وما يتفرع عنه.

في الفكر القومي الاجتماعي: نظرة علمية مؤسسة على قاعدة أخلاقية.

  1. القاعدة الأخلاقية: مصلحة سوريا فوق كل مصلحة، هل قاعدة مصلحة الجماعة لم تعد صالحة؟
  2. القاعدة المعرفية: الحقائق تُستقى من العلوم، هل الحقائق العلمية تغيرت بشكل مخالف لما اعتمده سعاده؟
  3. القاعدة الحقوقية الأساسية: سورية للسوريين، هل  تغير الفكر الحقوقي في العالم عن هذا الأساس؟
  4. هل إن هذه القواعد أصبحت تحتاج لإعادة نظر؟

 ويجري التمييز بين مستويين من التطوير هما: التحديث updating  والتطويرugrading، فالتحديث هو تطوير في الأمور الثانوية، أمّا التطوير فهو في الأمور الأساسية؛ هل ان التطوير المنشود هو في عمق البنية أم في الحواشي؟ لذلك هل هو تحديث أم تطوير؟

نترك الشأن الفكري بشكل أسئلة مفتوحة رهن بمفكري الحرب ودعاة التطوير بإعادة صياغة جديدة، وننتقل إلى المسألة الثانية الخطاب القومي الاجتماعي.

  هل ان خطابنا بحاجة إلى تطوير؟ هذه مسألة مهمة جداً، هل ما زلنا نقارب العصر بخطاب متأخر؟

المؤسف أننا في لحظة امتدت منذ فترة، اتسمت بالتراجع، في خطابنا غاب الفكر، في السياسة غاب الفكر، وفي الاقتصاد والاجتماع. فلا تحليل سياسي دون قواعد فكرية؛ غاب الفكر وبقيت السياسة، والخطاب تماهى مع السائد.

أهم سمات القومية الاجتماعية التمايز؛ فنحن حالة تمايز كاملة عن كل السائد المنهار. وعندما يفقد الخطاب تمايزه، ويصبح خطابا رتيباً. قوة الحزب أنه كان من خارج التجزئة، من خارج الهزيمة، من خارج التفسخ، من خارج الانهيار والانحطاط؛ لذلك بقي، وهذا ما أعطاه قوة. لذلك كان خطابه باعتباره تمايزاً قوياً فاعلاً، كان على الخطاب أن يولّد القوى الحية الخلاقة في امتنا، كان خطاباً له هوية النهضة.

المشكلة أنه عندما يفارق الحزب النهضة، يفارق الخطاب مصدره. إذا كانت الحزب مفارقاً للنهضة، فما قيمة كل الخطاب؟ أين يتجلى الخطاب الحزبي؟ في بيانات الحزب الرسمية المعبرة عن مواقفه من كل الواقع الذي يشمله، أيضاً في الصحافة، في المذكرات، في الرسائل، في صحيفة الحزب الناطقة باسمه، أيضاً في الدراسات المنتجة بغاية خدمة خط الحزب في مراكز الدراسات. فاين هي مجلة الحزب في الثلاثين سنة الأخيرة أقله، وكيف كانت هويتها؟ أين مراكز الأبحاث المولدة للبحث، وأين نشراتها؟ أين وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة؟

أهم ما في طبيعة الحزب تلك العلاقة اللصيقة بين الفكر والنهج بين النظري والعملي. لذلك سأعرض هنا لأهم مشكلتين في الخطاب: الخطاب المفارق، والخطاب التبريري، والخطاب المهادن.

يكون الخطاب مفارقاً عندما تكون حالة الحركة في حالة، والخطاب في حالة أخرى؛ نعم عندما يكون خطابنا صراعياً ونحن في حالة استكانة، عندما يكون خطابنا مقاوماً ونحن في حالة لا مقاومة؛ عندما يغيب خطابنا عن مشكلات شعبنا الحقيقية، عن التخلف والتجزئة والاحتلال.

أول مدخل لتطوير الخطاب هو تطوير الحالة التي افترق عنها الخطاب. أن يكون الخطاب مفارقاً فهذه مشكلة ناتجة، لكن كيف إذا كانت القضية مفارقة؟ إذا كانت الحركة القومية قد تعرضت لبعض الاخفاقات فهذا يستدعي تحديد الإخفاق لا تحميل الفكر المسؤولية.

في المقابل، يكون الخطاب تبريرياً عندما يجهد في تبرير حالة مرفوضة فيجهد لإعطائها صفة صحيحة أو شرعية أو مقبولة. في التراجع يحصل التبرير، وفي التفريط والتراجع وغياب الموقف والنتهرب من المسؤولية، يحصل التبرير. لا يكون التبرير مرافقاً للنهضة.. إن الحركة الناهضة  للحزب تعبر عن نفسها بخطاب من طبيعتها، لذلك كان خطابنا في الأربعين سنة الأخيرة تبريرياً لأن  الأساس كان في أزمة؟ عندما كنا في موقع السلطة الكيانية، وعندما كنا في حلف بغداد، وعندما كنا في موقع الاستقالة من العمل العسكري المقاوم، وعندما كنا في حضن الحريرية وحضن النظام الأمني الشامي لا الحضن القومي، وعندما كنا في موقع الدفاع عن القوى الطائفية كان خطابنا تبريرياً، وعندما كنا في موقع مهادَنة الأحزاب الطائفية، وربما في حضنها، كان خطابنا تبريرياً. في حالة القحط، إذا علا الخطاب كان مفارقا، وإذا تدنى الخطاب كان تبريرياً. الأساس هو جملة المواقف الفكرية والعملية التي ينسجم معها الخطاب.

في أكثر من مرة، كان الحزب في الموقع السياسي الخطأ، لكن هل كان في الموقع الفكري الخطأ؟ هذا رهن بإجابات المختصين. في الأماكن التي يكون فيها الحزب في الموقع السياسي الخطأ، كيف يكون خطابه صحيحاً؟ لن يكون إلا تبريرياً شاذاً. أما أن نرمي مشكلة التراجع على عدم التطور، فهذا ذرٌّ للرماد في العيون. إن غياب المؤسسات الضامنة لعدم انحراف الحزب إلى الموقع الخطأ، وتقييم التجارب وضبطها، هو أساس في أزمة الحزب. هذا ليس تطوراً، هذه حاجة ماسة لإيجاد المؤسسات الضرورية وقيامها بدورها.

ميز سعاده بين النهضة والحزب، والفكر والحركة رغم التصاقهما. كان دقيقا في مفرداته. فالحزب فكر وحركة، المشكلة أن مكوّن الحركة هو الذي تعرض للعطب،  للتقطع، للتوقف، فانقطعت تلك العلاقة الفريدة بين الفكر والنهج. لا حلّ إلا بعودة الحزب إلى حركته الصحيحة، واستعادة هويته الصراعية… حركتنا الصحيحة  فكر وحركة.

اذا لم نستعد موقفنا اللامهادن اللا معترف بشرعية الواقع اللانهضوي، فلن يكون خطابنا لامهادناً. المشكلة في الأساس: كيف يكون لنا خطاب بدون مؤسسات اعلامية وصحف؟ هل ان صحيفة الحزب كانت المعبر الحقيقي عن خطابه؟ هل هي نقطة الجذب المولد لقوى الفكر في مجتمعنا المعبرة عن حقيقة حياته ومصيره؟

أنطون سعاده لم يهادن مرة لا الفساد، ولا الخيانة، ولا التفريط. ماذا اذا كان الحزب مهادناً؟ كيف يكون خطابنا مهادناً؟ عندما لا يكون الحزب أداة للنهضة يصبح القوميون خارج الحزب، وإذا أصبح القوميون خارج الحزب ضاعت الجهود وتشتت الإنتاج الفكري. عندما أصبح الحزب منفى للقوميين، بقيت النهضة حضناً دافئاً. أن يفقد القومي هويته داخل الهوية الكبرى هذا مفصل، هذا اغتراب بحاجة إلى معالجة، إلى تفسير، وإلى حلول.

لأجل ذلك كله أهم ما في رؤيا التطوير وصياغتها هي القراءة النقدية للتجربة. إن قراءتنا النقدية للتجربة تجعلنا نكتشف حجم الجفاف المؤسساتي، بالرغم من استمرار انتاج الأفراد.

نحن بحاجة ماسة إلى استعادة هوية الحزب النهضوية المفقودة، وكل النقاشات الأخرى، لاحقة من حيث الأولوية.

أربع سمات أو أقانيم للهوية النهضوية للحزب تأسست على النظرة القومية الاجتماعية: أولاً الأخلاقية، وثانياً الصراعية-النضالية، ثالثاً القومية، رابعاً المعرفية. كل هذه المكونات تعرضت للاهتزاز، وربما التشظي. من هنا، الصراعي هو حركي هجومي تغييري، والأخلاقي هو مناقبي تضحوي. إنّ السلوك الدفاعي هو سلوك تراجعي، بينما نحن حزب هجومي. وعليه يكون الخطاب دفاعياً لا هجومياً. إن الانحسار إلى الاهتمامات الكيانية تُسقِط الصفة القومية، وتجعل الحزب كيانياً، ويصبح خطابنا كيانياً؛ هو ذلك الارتباط الوثيق بين الفعل والناتج.

لذلك قبل أن نطالب بالتطوير هل يمكن نطالب بالتطبيق؟ الامين بديع عطية بعد سلسلة تعديلات وتعديلات للدستور، كتب دراسته الشهيرة: “دستور الحزب للتعديل أم للتفعيل”، وقال: كلما اخفقنا رحنا نعدل في الدستور الذي لم نطبقه اصلاً.

كل ذلك يقودنا إلى الأساس، إلى أن المشكلة في الحركة والنهج. وهنا يصبح مدخل تطوير الخطاب في تطوير الحالة المتردية.

لا بد لما سبق أن يختصر الإجابة بأننا في أزمة فهم المشكلة الحقيقيّة، إن فهم الأزمة هو مقدمة طبيعية لفهم الخروج منها، فهي ناتجة عن انقطاع، عن دوران غير طبيعي، عن فقدان نهج مصارع، جعلت التفكير يذهب إلى مكان آخر، فتاه المسار وتاه المدعوون. إن الخروج من أزمة الحزب ليست بالتطوير، بل باستعادة هوية الحزب المغيبة.

مشكلة الجيل القومي أنه لم يكن بمستوى الفكر القومي، فلم يستطع مواكبة أبعاده وعمقها، والأفق الذي فتح فيها. قصّر فراح يلقي اللوم على الفكر، وأبرز مظاهر التقصير كان في التباعد في فهم القضايا الوافدة.

لقد تحول مفهوم التطور إلى مسألة إبهام، والمبهم هو حالة الذات المشتتة المضطربة، المتخبطة؛ لذلك من غير المقبول أن يقارب الفكر القومي الاجتماعي أي مسألة بمبهم. هذه قاعدة لا لبس فيها، حسمها سعادة منذ عودته: “التعيين شرط الوضوح”.

نحن مطالَبون بتطوير وتعميق فهمنا   بإعادة النظر في قصورنا عمن أدرك مضامينه العميقة والثورة التي أحدثها. أكثر من ثمانين عاماً و كل نخبة الحزب لم تكتب نشوء الأمة السورية، ولا تاريخ سورية، ولا تحرير تاريخنا من التاريخ الروماني أو العربي؛ ولا بلورنا اقتصادنا. كيف سننجح في التطوير إذا فشلنا في الاستكمال؟

هذا ليس رداً على أحد، نحن لسنا فرقة زجلية، في عرفنا هي مناقشة. هذا فتح لآفاق التفكير، لإعادة الفهم والتفكير وإعادة صياغة كل الإشكاليات الجدية والرصينة.

نحن جماعة واعية فاهمة آمنت بالعقل والوجدان، ناضلت بالفكر والمناقب، تركت بصمات فارقة في تاريخنا المتراجع، تمايزت عن هذا الكم المتراكم من ركام، لذلك كانت هذه الورقة المتواضعة في مجلة تسعى لاستعادة هوية الحزب المفقودة.

في الحلقة المقبلة سيكون البحث في نظام الأشكال والوسائل اللازمة لتحقيق الغاية، بين التطوير والتطبيق.

ابراهيم مهنّا