السبيل لإصلاح حياتنا: ثورة العقول

بفضل زمرة المافيات والدولة العميقة المرتهنة للخارج وغياب القضاء المستقل، نحن على وشك الانهيار الكامل. مجتمعنا مفكّكٌ وغارقٌ في قضايا الفساد والخصوصيات والحزبيات الدينية ومحاصرٌ اقتصادياً بكم هائل من مشاكل السياسة والبيئة والصحة والسكن والمياه والغذاء والتعليم والعمل والبيروقراطية.. لقد بتنا مجتمعاً خاوياً وفاقداً للحيوية الفكرية والإبداعية ولحس الاتجاه.. مجتمعاً منهكاً بتناقضاته وإنقساماته وصراعاته الطائفية وأزماته المتفاقمة وعاجزاً تجاه أوضاعه المأساوية. وما يزيد الطين بلة، أن هذا المجتمع، الذي تسود فيه ثقافات زائفة، مستوردة وجاهزة، وعقليات “رجعية” وغيبية مشوّهة، غبر مبالٍ بتنمية الثقافة الصحيحة، النافعة، وجعلها من أولويات إهتماماته.

من الواجب علينا ان نعيد النظر في الكثير من أحوالنا الاجتماعية والسياسية وان نبادرَ إلى نقض واقعنا الراهن وإصلاح مجتمعنا وتحصّينه بالوعي الاجتماعي الصحيح الذي يؤسس لوحدته وبعث فضائله النبيلة وتنمية روح التعاون بين أبنائه واستنهاض القوة الكامنة في نفوسهم.

من الواجب علينا أن نحرر نفوسنا من عبودية الخنوع والاستسلام للحال الراهنة والخضوع لحوادث التاريخ والبدء بإصلاح حياتنا الاجتماعية وتنقيتها من “الأدران النفسية والصدأ العقلي” والانحطاط المناقبي والاتجاهات التعصبية والمباشرة ببناء النفوس بناءً مناقبياً جديداً وترسيخ ثقافة الوحدة والتلاحم وتعزيز الولاء الوطني وبناء المجتمع المتماسك القادر على التجديد والإبتكار والتفوق في معترك الأمم والسير نحو مقاصده السامية.

إنَّ إصلاح حياتنا يبدأ:

أولاً، بإيقاظ عقولنا والإعتناء بها وإرشادها وتشريبها منهج التفكير العلمي وتغذيتها بالحقائق والمعرفة الصحيحة لتعود إلى الإبداع والإبتكار.

ثانياً، بالاهتمام بالثقافة البانية للإنسان – الثقافة النهضوية، المُنعشة، والفعّالة والعقلانية – وإعطائها الأولوية في خططنا وسياساتنا. نحن، وللأسف، أصبحنا مجتمعاً راكداً يقتل الوقت بالضجر والملل، مجتمعاً مستسلماً لثقافات التعصّب والتقليد والشعوذة والتسليم بالقدر والإنسحاب والرضوخ والرضى والطاعة والميوعة واللامبالاة، والأنانية والإتكالية والتلذذ بالأحلام الطوباوية، ومتماهياً مع الثقافات الغربية (الآنية) المعادية لتاريخنا والمهتمة بالجوانب المادية على حساب النظرة المعنوية للإنسان والحياة.

ثالثاً، بالتخلي عن التفكير السطحي – الرجعي والاتجاهات الفكرية المتمسكة بواقع الحال والإعتناء بالتخطيط الثقافي الهادف لتأهيل المجتمع وتحصينه بتعزيز ثقافة المعرفة والعمل والإنتاج والاجتهاد والتفاني في أداء الواجب وبنشر الوعي الاجتماعي الصحيح الذي يقضي على جميع المشاكل الروحية والنفسية في المجتمع ويؤسس لوحدته ومناعته. إن الوعي الاجتماعي ينقذنا من تخبطنا وتشرذمنا ويضيء طريقنا باتجاه المستقبل وينبّهنا إلى وحدة حياتنا ومصيرنا ويكشف لنا تراثنا الحضاري الغني بالمآثر الثقافية وبالعلم والفن والإبداع.

رابعاً، بإعتمادنا على التخطيط السليم الشامل للتقدم في كافة نواحي الحياة في المجتمع بأسره والمتلائم مع حقيقة أوضاعه القائمة.

خامساً، بتبني التفكير العملي-العلمي-المنطقي والإعتماد على البحث العلمي والميداني الموضوعي الذي يؤدي بنا لتغيير هذا الواقع الموروث وبناء مجتمع معرفي ينبثق عنه اقتصاد معرفي مبني على الإبتكار والإبداع.

سادساً، ببناء المجتمع المحصّن وقيامِ الدولة القادرة – الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها الجديدة الصالحة والمحرِّكة لطاقات الإنتاج. ففي ظلال الدولة الحديثة الضامنة لحرية الشعب وحقوقه والساهرة على رعاية مصالحه وتأمين بحبوحته وعيشه الكريم، يتحوّل الشعب بكل أجياله إلى قوة فاعلة ترتقي بالحياة إلى أعلى ما تتوق إليه النفوس من منعة وخير وبحبوحة وأمان ويكون لها القول الفصل في كل القضايا التي تخص المجتمع وجوداً ونهوضاً وتقدماً وإرتقاء.

وسابعاً، بإعتمادنا على التربية الصحيحة الخالية من المبادىء العنصرية والدينية، والقائمة على الحقائق والعلم الصحيح وعلى “المبادىء الشعبية الصحيحة التي تقوي في أجيالنا روح احترام النفس والثقة بالنفس”، وتنمّي في نفوسهم “الروح السليمة والمدارك العقلية العالية.” إن التربية القومية الصحيحة هي السبيل لإصلاح المجتمع وتأهيله وإطلاق طاقاته وتوجيهه لتحقيق أهدافه ومثله العليا. فبعض الدول، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، تمكنت من تحقيق تقدمها السريع بفضل تخطيطها واستثمارها في التربية القومية وإطلاق طاقاتها الإنسانية. اليابان، مثلاً، اقتبست التكنولوجيا الغربية واستوعبتها دون معوقات، فانجزت تقدماً سريعاً، بالرغم من عدم امتلاكها المواد الأولية، وها هي اليوم تنافس الغرب في الإبتكار والإبداع وفي الأسواق الإقتصادية. إن رهان اليابان كان على إنسانها الذي أهلتّه ليصبح خلاّقاً فأحسنت تأهيله. لذلك لا بد من تطوير نظامنا التربوي ومؤسساتنا التعليمية وإقامة مراكز البحوت والتخطيط واعتماد البرامج الهادفة لبناء نفوس الأجيال وتحرير عقولهم من تيارات المناهج الغريبة وقوالب الحياة الجامدة الخالية من المعاني السامية والمقاصد النبيلة ورعاية ملكاتهم الخلاّقة. فما نفع التربية إن لم تسْعَ لبناء العقول المبدعة وتعزيز الوعي العلمي والثقافي للوصول إلى حياة أجمل وأسمى؟

إن الإستثمار في التربية الصحيحة وبناء الجيل الجديد هو الطريق لبناء مجتمع منتج، وحرّ وخلاّق. ونقطة الإنطلاق في التربية هي في العمل مع الأجيال الطالعة. إذ لا بد للنهضة الحقيقية الساعية إلى النهوض بالمجتمع وتحريره من أن تبدأ عملها مع الأحداث والأجيال الطالعة وتركّز إهتمامها على بناء الشخصية الاجتماعية الواعية والمتحررة من النزعة الفردية السلبية ومن مشاعر الإرهاب المباشر والقهر والكبت والنقص والخوف والعجز والإتكالية والرضوخ، فتزرع فيها قيم الثقة والإستقلال والحرية والصراحة والصدق والتعاون والوئام مع الآخرين ونزعة الإنتماء إلى الجماعة وتسلّحها بالعقل الإرادي الناضج والقادر على التساؤل الحرّ والتفكير المستقل والتحليل والمعرفة والنقد وتنمّي فيها القدرة على تحمّل مسؤولية أعمالها ومواجهة ما تعترضه من مشكلات وتحديات دون خوف او تهرب.

كما لا بد من تأمين بيئة تربوية صحية، متفاعلة وجيدة، تقوم بتهذيب الأجيال وتربيتهم في الفضائل الجميلة، وتنمية شخصياتهم وتنقية عقولهم، وتوجيه اهتماماتهم، وتوليد وعيهم بالمستقبل وبمتطلبات الحياة الكثيرة والمعقّدة، وتحسين علاقاتهم، وتشجيعهم على مجابهة الصعوبات والتحديات وعلى الجدّية والحوار والمصارحة والتعاون.

وتهذيب الأجيال يبدأ في ترسيخ حب النظام والأخلاق والقيم الإيجابية في نفوسهم وفي تنمية إرادتهم الحرّة وروح المقاومة لديهم وحثّهم على الحيوية الفكرية وبذل الجهد والترحيب بالعمل الشاق وتحصيل المعرفة وحب الإطلاع وطلب العلم والبحث عن الحقيقة والإنصياع لها والإنتصار للحق ودفع الظلم ومساعدتهم للتحرّر من مخاوفهم وأوهامهم وعاداتهم السيئة وللتخلص من أمراض الأنانية والغرور والتعالي والشعور بالعجز.

ولبناء جيل حرّ، لا بد من الإهتمام بعقول الناشئة وتنقيتها من الأفكار الخاطئة التي تشوه رؤيتهم للحياة والأشياء ومن العادات الفكرية السيئة التي تدفعهم إلى “المبالغة، والتحيز، والتعصب، والخضوع للعاطفة، والوقوع تحت تأثير الشائعات، والرؤية النصفية، وتفسير الظاهرات الكبرى بعامل واحد، وما شابه ذلك.” لذا، يجب العمل على تحسين مستوى التفكير لدى الجيل الجديد وذلك يتمُّ بتنمية مواهب الطالب وقدراته الذهنية، وتحسين مهاراته، وتفجير طاقاته الابتكارية والإبداعية وتكوين نفسيته الإيجابية، وتعويده على التفكير المركّز وتنمية فضوله المعرفي والتساؤل والحس النقدي وروح الأمل والواجب والثقة بالنفس والشعور بالمسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه وتعويده على الخدمة الاجتماعية والإهتمام بخير المجتمع ومحاربة الشر. كما يتم بتدريب الطالب على حرية التفكير والمرونة الذهنية والانفتاح وملاحظة الأشياء والإهتمام بالتفاصيل وفحص التصورات ورؤية الإيجابيات والسلبيات والإختيار والعثور على البدائل المتعددة. ولا بد ايضاً من ترسيخ قيم المثابرة على العمل في نفوس الأجيال وحثّهم لبذل الجهد وتركيز الإهتمام وتأجيل الرغبات وتخصيص الوقت لاكتساب المعارف والمهارات ودفعهم للتراجع عن أخطائهم وللسعي وراء التميّز الحقيقي بدلاً عن البروز الشكلي.

ختاماً، لم يبقَ لنا إلا ان ننتشل عقلنا من مستنقعات الجهل والظلام والخمول والجمود ليعود إلى وظيفته في الإنتاج والإبداع وتحقيق المنجزات العظيمة في كافة الميادين. والحق نقول، أنه لا يمكننا أن نغيّر ما بحالنا حتى نُغيّر ما بأنفسنا. لذا لم يبقَ لنا إلا أن نثور على مسبّبات الخمول وعلى التقاليد المتوارثة التي “تمنع نفسيتنا وعقليتنا من النمو وتشوه تركيبتنا الاجتماعية وتجعلنا عاجزين عن تحقيق ما قد نرى فيه مطلباً أعلى جميلاً.” فهل نعلن ثورة العقول التي تطلق طاقاتنا لنبني مستقبل أفضل وأصلح وفق نمط جديد من التفكير الحي المتطور يدفعنا لتحقيق نقلات كبرى باتجاه بناء حياة جديدة ومجتمع حرّ يحترم العقل، ويعلي مكانته ويستثمر في تنميته؟

رئيس الندوة الثقافية المركزية الدكتور ادمون ملحم