هل صحيح أن السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، سلطان مفترى عليه وفق بعض الأوساط والأقلام الإسلاموية التي تناولته في ذكرى وفاته، أم أن الوقائع والمعطيات تؤكد هذه الافتراءات.
عن سكة حديد بغداد وسكة حديد الحجاز
قام السلطان عبد الحميد بالاستيلاء على أراضي واسعة محيطة بالمشروعين لغايات بيعها لاحقا للشركات التي يقع عليها العطاء.
أعطيت امتيازات سكة حديد بغداد للألمان 1902 بشروط مجحفة لمدة 99 عاما وبحيث:
تتعهد الحكومة التركية بتقديم جانب من الأرضي مجانا
حق الشركة الألمانية باستغلال أية موارد على طول الخط وحق إقامة الموانئ والمحطات والتنقيب عن الاثار
توزيع الأسهم المالية للشركة بواقع 80% لمجموعة المصالح الألمانية.
شراء البنك الألماني كل الحصة العثمانية في البنك العثماني وكانت محدودة للغاية قياسا بالحصص اليهودية والأوروبية الأخرى (لؤي بحري، سكة حديد بغداد، شركة الطبع والنشر – بغداد 1967، صفحات 69 -111).
وضع السلطنة تحت سيطرة الأجانب
قدرت قيمة ما تسيطر عليه فرنسا في الإمبراطورية العثمانية عام 1903 بثلاثة أخماس الالتزامات العامة للخزائن العثمانية (المرجع السابق، صفحة 95).
بالإضافة إلى استكمال السيطرة اليهودية والأوروبية على البنك العثماني، يشار إلى هيئة الديون العثمانية الأوروبية من أجل تسريع رسملة الدولة التركية ودمجها بالاقتصاد الرأسمالي الأوروبي (عبد الفتاح إبراهيم، على طريق الهند، صفحة 102).
سقطت معظم المناطق العربية تحت الاستعمار الأوروبي خلال مرحلة السلطان عبد الحميد، ففي أفريقيا العربية سقطت أو استكمل الاستعمار الأوروبي إسقاط هذه المناطق مثل المغرب وتونس والجزائر وليبيا، كما فقدت مصر استقلالها الذي حققه محمد علي حين هزم الجيوش العثمانية وحاصر إسطنبول، قبل أن يضطر إلى الانسحاب والاكتفاء بمصر إثر مؤتمر لندن الذي نظمه روتشيلد بحضور بريطانيا وروسيا القيصرية لدعم السلطنة العثمانية وإنقاذها من الجيوش المصرية.
أما في عهد السلطان عبد الحميد وبعد فشل ثورة أحمد عرابي على الخديوي عميل الانجليز والضباط الأتراك الذين كانوا يدعمونه، فقد تحولت مصر بموافقة السلطان إلى دمية بيد الاستعمار البريطاني ولم تنهض المناطق المحتلة في أفريقيا العربية وتقارع الاستعمار الأوروبي إلا بعد سقوط حكم عبد الحميد وتحالف (الاتحاديون) مع ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى.
لم يقتصر التخاذل السلطاني أمام الاستعمار الأوروبي على أفريقيا العربية، بل امتد إلى آسيا العربية أيضا حيث سقط الخليج كاملا تحت الاستعمار الأوروبي، بل أن السلطنة قدمت تنازلات مكتوبة حول العديد من هذه المناطق، وتحول العراق رغم حدوده مع المركز العثماني إلى منطقة نفوذ مشتركة مع إدارة المخابرات البريطانية في الهند والبصرة.
على الصعيد الاقتصادي
لو أخذنا أهم ولاية عربية تحت الحكم العثماني وهي ولاية سوريا، ولاية دمشق سابقا، فتشير دراسة لـ محمد جميل بيهم (العرب تحت حكم ال عثمان) إلى المعطيات التالية إبان حكم السلطان عبد الحميد:
بالتزامن مع نظام الامتيازات الممنوح للشركات الأوروبية لإقامة بنى تحتية تخدم مصالحها وتسرّع في دمج السلطنة بالاقتصاد الأوروبي، تسببت هذه السياسات بإغراق أسواق ولاية سوريا بالبضائع الأجنبية على حساب المنتجات السورية وانخفض عدد المعامل والعاملين من 1966 معملا و35 ألف عاملا عام 1851 إلى 1395 معملا و8 آلاف عامل (بيهم، صفحة 164).
أما على الصعيد الزراعي انخفض عدد القرى الزراعية في عموم سوريا من حوالي 4500 قرية تمارس الزراعة عشية سقوط الشام تحت الحكم العثماني إلى 2000 قرية في عهد السلطان، وأعاد محمد كرد علي ذلك إلى طريقة تلزيم الأمصار والإقطاعات وضعف الأمن بسبب هجمات البدو وفداحة الضرائب وانتقال ملكية المزارع والأرضي إلى الولاة.
على الصعيد التعليمي
مقابل اقتصار التعليم باللغة العربية على الدروس الدينية، توسعت المدارس التبشيرية بالتزامن مع نظام الامتيازات للأجانب ولم تقم الإدارة العثمانية بإنشاء المدرسة الإعدادية في دمشق إلا عام 1885، ومقابل تخصيص الأتراك 71 ألف ليرة تركية للمعارف من أصل 90 مليون فرنك مجموع جباية ولاية سوريا، خصصت روسيا القيصرية مليون فرنك للإنفاق على المدارس الأرثوذكسية وخصصت إيطاليا مليون ونصف مليون فرنك وخصصت فرنسا 700 ألف فرنك على المدارس الكاثوليكية (بيهم، صفحة 191).
وبوسع جماعات الإسلام السياسي المتشددة أن تدقق أيضا في الانتشار الواسع لمدارس الإرساليات التبشيرية في عهد السلطان عبد الحميد، وذلك وفق ما جاء في كتاب الجامعة الأمريكية للكاتبة بيتي اندرسون ص 14وهي على النحو التالي: 50 مدرسة كاثوليكية فرنسية ضمت 59000 طالبا، 675 مدرسة أمريكية إنجيلية ضمت 34000 طالبا و178 مدرسة بريطانية إنجيلية ضمت 12000 طالبا.
السلطان عبد الحميد والقضية الفلسطينية
عند قيام قيصر ألمانيا، فلهلم الثاني، صديق السلطان عبد الحميد بزيارة إلى القدس ووصفها بزيارة أرض الميعاد، رفع العلم الإمبراطوري الألماني على جبل صهيون (عبد الفتاح إبراهيم، على طريق الهند، صفحة 91)، وكان اليهود الأكثر استفادة من هذه الزيارة وسماح السلطان بالتبشير الديني في القدس برعاية زوجة القيصر، فدعم اليهود القيصر ماليا مقابل نفوذه عند السلطان الذي سمح لهم بإقامة عدد من المستعمرات الزراعية في القدس وحيفا (عبد الفتاح ابراهيم، على طريق الهند، صفحة 96).
إلى ذلك، وفيما يخص المشروع الصهيوني اقتراح السلطان على هيرتزل العراق بدل فلسطين بالإضافة إلى بناء عشرات المستوطنات في فلسطين نفسها.
وحول موقفه من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فإن الوقائع كما نشرها نجيب عازوري في كتابه (يقظة الأمة العربية) عن دور الوالي العثماني في القدس، كاظم بيك، تكذب هذا الموقف.
فبعد أن انكشف دور الوالي في تسريب الاراضي للحركة الصهيونية واخذ عمولات على صفقاتها، طٌلب الوالي للمثول أمام السلطان، فما كان من الوالي إلاّ أن أرسل حوالة مالية بالفي ليرة لمقام السلطان.
ولم يمر شهر على ذلك حتى جاءه الرد بالإنعام عليه بالوسام العثماني العلّي الشأن.
وتتحدث الدكتورة فدوى نصيرات في كتابها (دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين) ان الموقف الشائع والمروج له حول السلطان عندما قابل هرتزل، يتغاضى عن بقية الرواية، فمقابل عدم موافقته على المشروع الصهيوني ككل، سمح بحرية الهجرة والاستيطان بصورة فردية باعتبار اليهود مواطنين عثمانيين يحق لهم التملك في أي ارض من الإمبراطورية.
وقد نشرت الدكتورة نصيرات قائمة بحوالي مئة مستوطنة أقيمت في عهد السلطان أشهرها بتاح تكفا، ومثل ذلك، ما اشار له المؤرخ الامريكي اليهودي، والتر لاكوير عن هذه المستوطنة وغيرها مثل ريشون لتسيون، وزخروف يعكوف وذلك بدعم من البارون روتشيلد
إلى ذلك، لا تتفق المرجعيات التاريخية حول حريم السلطان وعدد الجواري في بلاطه، لكن أقلها هو اثنتا عشرة زوجة (فئة إقبال) وأكثر قليلا من فئة (قادين) وحوالي مئة جارية تتجدد مع الفاكهة يوميا.
محطات أخرى
يخبرنا فتحي رضوان، في كتابه عن مصطفى كمال، أن السلطان عبد الحميد الثاني وهو الابن الثاني للسلطان عبد المجيد (1839 – 1861) كان قصيرا ضئيل الجسم، محدب الظهر وكانت رأسه كبيرة قياسا بجسمه.
وقد بدأ عهده ببناء قصر جديد، لا يدري بطرقه الداخلية وسراديبه سواه فاستأجر مجموعات من المهندسين والعمال، وأمر كل مجموعة منهم بأن تبنى جزءا من القصر، ومن دون أن تدري بما تبنيه المجموعة الأخرى، وعندما فرغ بناء القصر الجديد “يلدز” بدأ السلطان في تأثيثه بنفسه، وحرص على وضع المرايا الكثيرة على حوائطه، لكشف حركات أي غريب يدخله.
وكان الخوف من الاغتيال يشغل عقل السلطان عبد الحميد الثاني الذي استبد به بعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني في روسيا. فكان لا يأكل إلا من يد طباخه الخاص، أو والدته، وبعد تجربة الطعام في احدى قططه وعند الأزمات، كان يكتفي بالخبز الجاف، الذي يحفظه في الأدراج المغلقة، والبيض المسلوق، وبعض الفواكه، وكان يضع في كل حجرة من حجرات القصر مسدسا يخفيه في درج سري، يقفز منه المسدس عند الضغط على زر خاص فوق الدرج.
وفي عام 1898، عندما زار القيصر فلهلم الثاني، السلطان عبد الحميد الثاني في قصر يلدز، قدم للسلطان بندقية حديثة كهدية، قفز السلطان من كرسيه.
وكان في الوقت نفسه يستقدم آخر موديلات باريس من الازياء والموبيليات عند ظهروها. حتى أن موديلات الكورسيه كانت تظهر في قصوره في نفس الوقت الذي تظهر فيه أوروبا. وانه كان له حماس خاص بالحذاء الكوتش والزهور المصنعة.
وكان للسلطان عبد الحميد الثاني جيش كامل من المخبرين السريين في انحاء تركيا، ومع ذلك فعندما فاجأت روسيا بلاده بالغزو في ابريل عام 1877 لم يدر السلطان بما حدث حتى هرع اليه السفير الانجليزي، ولم يتحرج عن ارسال برقية الى ملكة انجلترا يطلب فيها المساعدة.
تصفية خصومه
لم تعرف حتى الآن ظروف وفاة السلطان عبد العزيز، فروايات ردتها إلى انتحاره بقطع شرايين يده وروايات ردتها إلى السلطان عبد الحميد بعد أن اتهم رئيس وزرائه القوي، مدحت باشا بذلك ونفاه إلى الطائف حيث قتل لاحقا خنقا بالحرير الناعم وفق العادة الدارجة في البلاط العثماني، كما نظم السلطان من خلال ميليشياته الكردية أكبر مذبحة جماعية ضد الأرمن على مدار عدة سنوات بين 1893- 1896