نظام التفاهة

نظام التفاهة

مع اتساع دائرة الاهتمام بكتاب (نظام التفاهة) للفيلسوف الكندي الان دونو، نستعيد هذا الكتاب في ضوء ما يلمسه أي مراقب لتجليات التفاهة حيثما حلت أنظمة التبعية والفساد والتجويع والتطبيع ودوائرها من المتنفذين، البيروقراط والليبراليين على حد سواء، وكذلك عناوين الثورات الملونة:
أشباه السياسيين، أشباه الإعلاميين والمثقفين، بل وأشباه رجال الأعمال، سلة كاملة من حليب منتهي الصلاحية ودورة دموية فاسدة تسري في عروق منظومة التفاهة ورموزها ونجومها المزعومين وأبواقها، وتفسر صعودهم إلى (الصفوف الأولى) في سدة السلطة وتحت قبة البرلمان وفي الإعلام.
فالتفاهة والتدليس الثقافي والسياسي والإعلامي والفقر المعرفي والضحالة والانتهازية وانعدام قيم مثل الشرف والكرامة، هو أقصر الطرق إلى عالم اليوم، من البيت الأبيض والشانزليزيه ولندن ستان، إلى أصغر دكانة سياسية جنوب العالم.
الإطار العام للكتاب، هو البحث عن أشكال ومظاهر اللعبة وقواعدها غير المكتوبة التي تسعى إلى تحويل العالم، جنوب وشرق إلى عالم بلا سيادة وبلا مركز (فرديات وأجندة صغيرة متناثرة) تشبه كرات البلياردو.
وهو ما يحولها ويستغرقها في أنساق من نظام التفاهة والذكاء المتوسط التي تربط النجاحات الفردية بهذا النظام.
من مقدمة الكتاب: تسلل التافهون إلى كل الحقول وراحوا يتكاثرون ويقضون على كل شغف وذائقة وفكرة كبيرة ورغبة بالمخاطرة.
وبحسب المترجمة، فنظام التفاهة يعني: التسطيح، الأشياء والناس المتشابهون، العقل التقني بدل العقل النقدي، الفساد، تسليع الحياة والبشر، الفن الرخيص، التلوث المرئي والمسموع والبيئي، الرأسمالية والليبرالية المتوحشة، الثقافة الإدارية المفرغة من المعنى عبر مفردات مثل التمكين، الإنجازات، ريادة الأعمال، الجريمة المنظمة، انحطاط التعليم والجامعات وخضوعها للمراكز المالية، وكذلك مفردات مثل الحوكمة، الريادة الشبابية، القوى البرامجية بدل القوى السياسية، والحملة على الشمولية.
وفي التفاصيل أكثر:
1- تستند (اللعبة) في الثقافة الرأسمالية المتوحشة إلى تعميم قاموس خاص للتفاهة بما يذكّر بكتاب (الحرب على الجبهة الثقافية، من يدفع للزمار) الذي انتشر بعد الانهيار السوفياتي، ومن ذلك تعميم (المصطلح) بدل (المفهوم) والفكر بدل الفلسفة، والمهنة (التقنية الإدارية) بدل الحرفة …الخ
وتحت ترويج مفاهيم مثل الحركة (إخضاع الوقائع الاجتماعية لقواعد الملكية الخاصة) وخلط مفهوم الاشتراكية بمفهوم النازية باسم الشمولية.
2- ترويج نظام التفاهة في الحقل الجامعي والأكاديمي، وذلك من خلال تسليع التعليم بل وتسليع الطلاب والخريجين وتسليع الأساتذة عبر استغراقهم في نظام للترقية يهتم بتحسين وضعهم التدريسي والمعاشي أكثر من تطوير الأبحاث العلمية التعليمية وفي كتابه (إمبراطورية الخيال) يكشف هيدغر كيف تحولت الجامعات إلى مصنع (سلع طلابية) للشركات الكبرى..
كما لا يتورع هذا النظام عن وضع الأساتذة المتعاقدين تحت الابتزاز الدائم وبشروط وأجور مهينة كما لا حظ بيل ريدينجر في كتابه (خرائب الجامعة).
وبالمحصلة وكما انتبه لذلك اليوت مبكرا (تعليم بلا ثقافة).
ويذهب الكتاب إلى أكثر من ذلك عندما يناقش بالتفصيل مقارنة لعالم الاجتماع، افونسو، تشبّه نظام التفاهة الجامعي بعمل المافيات لا سيما وأنه يكشف قيام العديد من الجامعات الأمريكية والكندية بالاستثمار في مناطق غسيل العملة والتهرب من الضرائب مثل جامعات مونتريال وكيبيك وكمبردج واكسفوردوبرنستون وغيرها.
3- تجويف وتجريف العمل السياسي ناهيك بالايديولوجيا والتركيز على الثقافة النفعية الاستهلاكية المرفقة بأنماط من التسلية والمسلسلات الفارغة وكرة القدم التي تستهلك الوقت الأكبر من الجمهور.
4- توسيع الاقتصادات الموازية مثل الملاذات الضريبية للتهرب من الضرائب أو لغسيل العملة) والاوفشور (كيانات تجارية أو مالية أو شركات تابعة في هذه الملاذات) وقد طالت فضائحها مثل فضائح بنما 120 ألف طرف بينهم ملكة بريطانيا ورئيس وزراء كولومبيا وشركات ميكروسوفت ونايكي وماكدونالدز واوبر للنقل وعشرات (القوى السياسية) بما فيها الجماعات الإرهابية وكذلك العديد من الجامعات ومن الملاذات التي يذكرها: جزر مارشال، الجزر العذراء البريطانية بنما، ليبيريا، جبل طارق، البا هاوس، ستغافورة، برمودا، ماكاوا…الخ
5- المواقع والمنابر الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تلعب أدوارا عديدة ومؤثرة في نظام التفاهة بديلة للصحافة الورقية السابقة، تسويق النفاق وأشباه المثقفين مثل ترميز التافهين (تحويل التافهين وتعليقاتهم السخيفة إلى رموز)، وذلك بالإضافة لاستبدال التواصل الاجتماعي بالتواصل الرقمي، كما يتوقف الكتاب عند دور التلفزيون في تكريس نظام التفاهة سواء من خلال نمط المذيعين والمذيعات وضيوفهم والمشاهير السخفاء.
6- من عناوين نظام التفاهة فنانون وكتاب تحت الطلب وبسبب رغبة السوق والمنتجين
7- من مظاهر نظام التفاهة ليس فقط العقل التقني مقابل العقل النقدي الغائب، بل والعمل الذي يلغي البشر ويسمم أرواحهم كما لاحظ شابلن في فيلم الأزمنة الحديثة، وذلك من خلال الأنظمة الرأسمالية المتداولة المنسوبة إلى تايلور وفورد التي عمقت التحول من الحرفة إلى المهنة إلى تكثيف الحركات وخطوط الإنتاج بأقصى درجات الإنتاج والربح الوحشية.
8- بالإضافة لنقده التفريغ السياسي عموما، يتوقف الكتاب عند البؤس المتواصل للقوى اليسارية التي دخلت في تحولات غريبة من الاشتراكية إلى اليسار الاجتماعي إلى الديموقراطية الاجتماعية متنازلة عن برنامجها الراديكالي بلا أفق وبلا معنى وتحت عناوين مثل الأخوة والعلمانية، ويذكّر بقول تاتشر زعيمة المحافظين وسياسات التوحش الليبرالي (إن بلير وتحولاته كان من أعظم إنجازاتها) ومثله فابيو في فرنسا.
9- في مواجهة كل ذلك، يثير الكتاب قضية شديدة الأهمية باتت تطرح بقوة في البلدان الرأسمالية، وهي أن الليبرالية التي يحاول الغرب تسويقها باسم الديموقراطية، تعيش أزمة حقيقية في الغرب نفسه وقد تستدعي (ردة فعل) تشبه الرومانسية التي جاءت ردا على الكلاسيكية التي ترافقت مع التحولات الصناعية البرجوازية.