من المعروف أن الجنين، إذا تعذرت ولادته بصورة طبيعية، تُجرى عملية لاخراجه من بطن أمه. وتسمى هذه العملية، عملية شق البطن، قيصرية. ونحن نستغرب لماذا تكرست هذه التسمية مع أن مثل هذه العملية كان معروفاً منذ أيام سومر المبكرة في وادي الرافدين، أي قبل أن تُعرف عند الرومان بزهاء ألفي سنة.
وقد تحدر إلينا أكثر من نص سومري وبابلي حول الولادة الطبيعية، وغير الطبيعية التي تقتضي استعمال العملية الجراحية عند إخراج الجنين من الرحم.
جاء في ملحمة “إينوما إيليش = حينما في الأعالي”، المعروفة بـ “ملحمة الخليقة البابلية ما يلي:
“شابزو، التي فحصت الرحم (رحم تعامت)،
التي رفضت تسليم فاعلي الشر،
التي تمارس عملية توليد طبيعي لإنجاب أطفال الخير،
أخرجت الطفل الشرير جهيضاً (أي مولوداً ميتاً).
التي فصلت كل جنس على حدة، طفل الكذب، وطفل الصدق،
التي أخرجت جهيض كل عدو، بآلة الكاكو… إلخ”.
ها هنا إشارة واضحة إلى “فحص الرحم”، والولادة الطبيعية، والولادة بشق البطن باستعمال آلة الكاكو. إنما يُفهم من النص أن هذه العملية الأخيرة تُجرى عندما يكون الجنين ميتاً في بطن أمه.
وفي قصة (إيتانا) وزوجته (مودام) التي ترقى إلى ما بعد الطوفان مباشرة، نقف على معلومات أخرى حول عملية اخراج الطفل من بطن أمه. وإيتانا هو أحد أقدم ملوك سومر، كانت زوجته مودام عقيماً. ولكي لا ينقطع نسله، حاول العثور على “عشبة الانجاب” لزوجته.
وتروي لنا قصة إيتانا أن أفعواناً ونسراً عاشا على شجرة واحدة جارين طيبين يعين أحدهما الآخر. لكن النسر نكث هذا العهد ذات يوم، والتهم صغير الأفعوان. فتظلم أبوه عند إله الشمس (شماش) الذي نصحه بأن يختفي في أحشاء ثور نافق ليترصد النسر وينتقم منه. وعندما حط النسر على جثة الثور النافق ليلتهمها، انتقم منه الأفعوان على النحو الآتي: أمسك بالطير الكبير وكسر مخلبه، ورماه في حفرة. وكان هناك رجل يدعى إيتانا، ليس له أطفال، يبحث عن “عشبة الولادة” التي لا تنمو إلا في السماء. تضرع أيضاً إلى شماش، فنصحه بإنقاذ النسر، ليكسب وده ويتخذه واسطة للطيران إلى السماء. وهذا ما فعله إيتانا. “ثم وضع صدره على صدر النسر، ووضع يديه على ريش جناحيه، ووضع ذراعيه على جنبيه”.
وبهذا الوضع غير المريح انطلق إيتانا في رحلة محفوفة بالخطر. وشيئاً فشيئاً صار يرى الأرض تتقلص إلى قطعة صغيرة كالحقل، والبحر بحجم سلة الخبز. حتى إذا اختفى منظر الأرض والبحر، استبد الرعب بإيتانا وقال: “يا صديقي، لن أواصل العروج إلى السماء”! ثم أرخى قبضته، وسقط إلى الأرض، يتبعه النسر…
وعند هذه النقطة الحرجة يتوقف النص الذي عُثر عليه مخروماً. لكننا نستطيع الاستنتاج بأن إيتانا حقق غرضه، فقد أصبح له، في نصوص أخرى، ولد وريث يدعى بالخ، وعاش هو 1560 سنة.
وورد ذكر إيتانا في سلالة أور الثانية (لما بعد الطوفان). كما ورد اسمه في ملحمة جلجامش:
في منزل الغبار، الذي دخلت،
يقيم رئيس الكهنة ومساعده،
يقيم المعزم والمعزوم
يقيم إيتانا، ويقيم سومو قيم
ويحدثنا نص آخر عن عملية الولادة “القيصرية” لزوجة إيتانا، المدعوة مودام. وجاء في هذا النص :
(السطر الأول مشوه تتعذر قراءته)
أجريت (لا بد أن المقصود بذلك عملية جراحية)
المسالك (المفضية إلى رحمها) تقلصت.
لذلك، (حين تلم) برحمها نوبة مرضية، فإنها تعاني من عجز (في إمدادات الدم).
ثم أزال الأشيفو (الشافي أو العراف أو الطبيب) العظام بآلة.
لكن الآلات التي (خرقت جدار الرحم لسوء الحظ، سببت نزيفاً)
ولصيانة الدم حرصت على أن لا تذهب إلى المياه الراكدة.
لكن الجسد (لم يتعرض للتلوث)،
وعندما توقف النزف الذي تعرضت له، تحسنت حالتها.
إن السطرين الخامس والسادس ينطويان على أهمية كبيرة لأنهما يلقيان ضوءاً على ممارسة القبالة (التوليد) في الأزمنة القديمة. وقد تطرق إلى ذكرهما برذويل وسانديسون مؤلفا كتاب “الأمراض في العصور القديمة” الصادر في العام 1967، في الفصل المعنون “ولادة الطفل واضطرابات الرحم”. جاء في كتابهما هذا: “إذا حصل مكروه، ومات الطفل في الرحم، فثمة دليل واضح من نصين أدبيين هما ملحمة الخليقة، ونص جديد حول أسطورة إيتانا، يشير إلى أن عملية إخراج (بالأكدية: نشاخو) الجنين تم اجراؤها باستعمال آلة الكاكو Kakku، أو نوع من الآلات الجراحية، هي أغلب الظن على غرار ما وصفه سيلسوس Celsus الروماني بدقة متناهية في كتابه “دي مديسنا: الطب “.
وهذا ما يقوله سيلوس: “والآن، عندما يأتي المرأة المخاض، ويموت الجنين في الداخل لا بد من إجراء عملية، وإن كانت تعتبر من أكثر العمليات صعوبة، لأنها تتطلب أقصى الحذر والدقة والنظافة، ولا تخلو من مجازفة عندما تصل اليد إلى الجنين الميت فإنها تحس به فوراً، فإذا كان الرأس في الأمام، يجب إدخال خطاف ناعم ذي رأس قصير. لكن ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أن إخراج الجنين ليس ملائماً في كل لحظة، لأنه إذا تمت هذه المحاولة عندما يكون فم الرحم في حالة تقلص، فإن الجنين سيفلت من الخطاف، وسيدخل رأس الخطاف في فم الرحم نفسه، وسيترتب على ذلك تشنج في العصب واحتمال الموت “.
من جهة أخرى، يعكس النص السومري حساً صحياً سليماً لدى سكان وادي الرافدين الأقدمين في ما يتعلق بالتلوث ومفهوم العدوى المرضية، يذكرنا بما جاء في رسالة زمري – ليم، ملك ماري (قرب دير الزور) إلى زوجته شيبتو، في حدود عام 1780 ق. م. يقول فيها:
“بلغني أن السيدة نانامة ألم بها مرض. وعلمت أنها تختلط بالعديد من أفراد القصر. وتستقبل كثيراً من السيدات في منزلها. والآن، اصدري أوامر صارمة تقضي بأن لا يشرب أحد من الكوب الذي تستعمله، ولا يجلس أحد على المقعد الذي تستعمله، ولا ينام أحد في السرير الذي تستعمله. وينبغي من الآن أن لا تختلط بأحد في منزلها. إن هذا المرض معد (بالحرف الواحد: صابتو، أي يصيب”.
علي الشوك – باحث عراقي راحل