إرضاء الآخرين.. هل هو داء بالفعل؟

هل يصعب عليك قول “لا” للآخرين؟ هل تسعى إلى إسعادهم وإرضائهم؟ هل سلوكياتك هي نتيجة رغبة بإرضائهم وكسبهم؟ هل تخاف خسارتهم؟

لا شك أنّ الرغبة بإرضاء الناس والحصول على الثناء والقبول هو شعور مألوف وطبيعي لكوننا نرغب بأن يكون الناس من حولنا سعداء، فنتصرف بطرق نعتقد أنها ستجعل الآخر سعيدًا، ونقدّم له المساعدة. لكن هذا السلوك قد يتجاوز مفهوم التعامل باللطف والرغبة الطبيعيّة لإرضاء الناس حين نبالغ بتركيزنا المفرط على ما يعتقده الآخرون عنا وما يريدونه منا، لدرجة أنّنا نهمل احتياجاتنا ونفقد هويّتنا ونشعر بالإرهاق والاستنزاف العاطفي.

وقد تتحوّل هذه الرغبة إلى ما يشبه الإدمان في حال تخلّي الإنسان عن قِيَمه وأولويّاته ورغباته في سبيل كسب رضا الآخرين. ويميل البعض إلى الحصول على قيمتهم الذاتية عبر الآخرين، فيربطون بين تقدير الآخرين لهم وبين تقديرهم لذواتهم، فتتأرجح القيمة الذاتية بفعل تأرجح آراء الآخرين عنهم، فتراهم تارة منطلقين على الحياة وتارة أخرى يائسين وتعساء.

على الصعيد النفسي، ذكر عالم النفس ابراهام ماسلو في ما سمّاه “هرم الاحتياجات الإنسانيّة” وفي شق الاحتياجات الاجتماعيّة حاجة الإنسان للشعور بالانتماء والقبول، انتماء إلى مجموعة اجتماعيّة كبيرة (كالنوادي والجماعات الدينيّة والمنظّمات المهنيّة والفرق الرياضيّة)، أو الصلات الاجتماعيّة الصغيرة (كالأسرة والشركاء الحميمين والمعلّمين والزّملاء)، وفي غياب هذا الانتماء والتقبّل لهؤلاء يصبح الإنسان عرضةً للقلق والعزلة الاجتماعيّة والاكتئاب بالعادة.
كذلك ركّز ماسلو على حاجات الفرد للتقدير وتحقيق مكانة اجتماعيّة والشعور باحترام الآخرين له، ممّا يشعره بالتالي بالثقة والقوّة، وهذه الحاجة، أي “القبول الاجتماعي” هي الدافع وراء ما يفعله الأشخاص، كما أنّها السبب وراء قيامهم بهذه الأفعال، ففكرة الرفض أو الاستبعاد الاجتماعي هي فكرة مؤلمة نفسيًّا، ويقول ماسلو أنّ حاجة الإنسان إلى اكتساب احترام الآخرين وتقديرهم له في المراحل العمريّة المتقدّمة يسبق حاجته لتقدير ذاته بعكس المراحل العمريّة المبكرة. وهذه الحاجة (التقدير) تبدأ بمرحلة الطفولة، حيث يسعى الطفل لإرضاء ذويّه، وإلى الشعور بأنّه مرغوب ومحبوب، وبأنّه ينتمي إليهم. كلّ ذلك يشعره بالأمان وهذا هو المفتاح الأساس لانتظام حياة الطفل النفسيّة واستقرار مشاعره الاجتماعيّة.
وقد يسعى الطفل أو المراهق بكافة الطرق إلى إرضاء صديقه والفوز بتقبّله، حتّى باللجوء إلى الكذب أو إلى محاكاة العادات السيّئة من تدخين السجائر وشرب الكحول والسرقة، بل إنّ تأثير الأصدقاء وقبولهم قد يؤثّر على المراهق إلى درجة الملابس وتسريحة الشعر وغيرها من العادات. أمّا الكبار فتراهم أحيانًا يقومون بتصرّفات غير مؤيّدين لها من أجل أن ينالوا رضا وقبول الآخرين، كخيارات الشريك في الزواج والخوف من الطلاق تحسّبًا لكلام الناس ورفضهم للفكرة، أو السعي لامتلاك أفخم السيارات ولبس الثياب ذات “الماركات” المعروفة رمزًا للانتماء لطبقة معيّنة، وكلّ ذلك بهدف القبول الاجتماعي والتقدير والذي أصبح يتحكّم باختيارات الأفراد.

في أحيانٍ كثيرة يبالغ الأشخاص بالسعي للحصول على رضا الآخرين إلى درجة التضحية بالراحة والوقت والطاقة، وتصبح لرغبات الآخرين أهميّة أكبر من احتياجاتنا الخاصّة وذلك للأسباب التالية:

1- المفاهيم المغلوطة: يتربّى معظم الأطفال على أنّ حبّ الذات أنانيّة، وأنّ الإنسان الجيّد هو الّذي يفضّل الآخرين واحتياجاتهم عليه، وأنّ الشخص الّذي يضحّي دائمًا هو الأفضل.

2- التنشئة: وذلك باستخدام نمط التربية المتضمّن لفكرة “الحبّ المشروط”، حيث إن حقّق الطفل رغبات ذويّه ينال حبّهما. وتتوسّع هذه العلاقة الشرطيّة للمجتمع الأكبر من خلال السعي لكسب رضا الآخرين عن طريق تنفيذ رغباتهم، بالإضافة إلى فكرة أنّ كلمة “لا” غير مؤدّبة وغير لطيفة ولا يجوز التعامل بها مع الآخرين، فينشأ الفرد دون القدرة على رسم الحدود وقول كلمة “لا” حين يشعر بوجوب قولها.

3- تقدير ذات منخفض: فيسعون إلى تعويض النقص بالقيمة الذّاتيّة لديهم من خلال الحصول على عبارات التقدير والشكر من الآخرين، ممّا يخفّف القلق النفسي الناتج عن الشعور بثقة منخفضة بالذات وقيمتها. وهناك أشخاص قد أوصلهم البحث عن قبول الناس واستحسانهم إلى قضاء يومهم يتابعون منشورات التواصل الاجتماعي خاصتهم لكي يحصدوا عددًا من اللايكات والمتابعين، ويحزنون بشدة في حال انخفاض العدد، وبسبب عدم التصالح مع الذات وقلّة الثقة بالنفس فإنّ الكثير من الناس يخافون بشدّة من انتقاد الآخرين لهم، فيميلون إلى الرضوخ للآخر كي لا يوجّه لهم أي ملاحظة أو تعليق سلبي.

أمّا للتخلّص من هذه الرغبة غير الصحية نفسيًّا، أي السعي خلف إرضاء الآخرين، يجب العمل على الذات وتبديل الأفكار المغلوطة والموروثات الاجتماعيّة الخاطئة، والّتي قد تحتّم على الفرد تفضيل مصلحة الآخرين على رغباته تحت مسمّى التضحية واللّا أنانيّة، والتحرر من إعطاء الآخرين الصلاحيّة لصنع حياة الفرد بعيدًا عن هويته وقيمته الذاتية، والتركيز على ما يريده بالفعل وما يشبهه والقيام به بثقة مع مراعاة القيم والمبادئ العامّة والأساسيّة. بالإضافة إلى العمل على تطوير الثقة بالذات وبالتالي ارتفاع تقدير الذات وحبّها من خلال تطوير المهارات والقدرات، فمن شأن ذلك أن يعزّز الثقة بالنفس والصورة الذهنيّة الإيجابيّة عن الذات والابتعاد عن استجداء الثقة من الآخرين.

كذلك فإنّ بناء الحوار الذاتي الداعم، وتقبّل نقاط الضعف وعدم طلب الكمال بل التطوّر المستمرّ واحترام الذات، تساعد على الشفاء من هذا الإدمان.
تقبّل النّقد هو فرصة لتطوير الذات أيضًا، بالإضافة إلى عدم التّسرّع بقول “نعم” بدلًا من “لا”، فإذا كان غير قادر على قول “لا” يمكنه البدء باعتماد سياسة التأجيل لكسب الوقت للتّفكير وإعطاء الجواب المناسب والذي لا يتعراض مع رغباته ومبادئه وراحته الشّخصيّة والنفسيّة.

 الأخصّائية والمعالجة النفسيّة ريما كسر