تتعالى أصوات الاستنكار والتنديد بقرار نقل مطران سبسطية د.عطالله حنا من القدس إلى عكا، نتيجة تحالف وثيق بين البطريركية اليونانية في القدس وسلطات الاحتلال، وفي خضم مواجهة مستمرة بعدما كشفته منذ سنوات عديدة صحف العدو ووثائقه عن التسريب القائم للعقارات وبيع املاك الوقف من قبل البطريرك تيوفيولوس الثالث إلى المستوطنين.
المطران عطالله حنا المولود في الرامة في الجليل الأعلى عام 1965، البلدة التي قسمها الاحتلال الاسرائيلي بالجدار العازل وأدى الأمر لتهجير أهلها إلى داخل القدس مما أبقى على هويتهم المقدسية. والرامة اليوم فيها معظم مؤسسات السلطة الفلسطينية الخدماتية.
من الرامة إلى القدس، حيث درس اليونانية، ثم إلى اليونان حيث حصل على ماجستير في اللاهوت من جامعة تسالونيكي عام 1991. وإلى القدس حيث هو اليوم عاد راهباً في كنيسة القيامة، ثم متحدثاً عربياً باسم البطريركية، كما قام بالتدريس في المدارس المحلية وفي كلية المعلمين العرب في حيفا، وحصل على دكتوراه فخرية في اللاهوت من المعهد اللاهوتي في صوفيا بلغاريا.
إن المتابع لسيرة المطران حنا منذ استلامه مهمته مطراناً على القدس منذ أقل من عشر سنوات وكيفية ممارسته لدوره الرعوي، يدرك أن قرار نقله إلى عكا وتوابعها مقصود كعقاب له على مواقفه القومية المتميزة. وليس “ترقية” أو “تكريماً” كما يتراءى للبعض، بل هو اقتلاع ونفي له من القدس في عزّ حملات التهويد والاستيطان ومخططات الإستيلاء على الأقصى وعلى أحياء القدس وعلى حي الشيخ جراح.
يعاقب المطران عطالله حنا وهو نصير المقاومة في القدس، من أجل إقرار حق العودة للفلسطينيين، ومن أجل دعوته مسيحيي العالم كلّه إلى الدفاع عن مسيحي فلسطين. . . هو عقاب له على مواقفه المشرفة.
المؤامرات على المطران لم تتوقف منذ أن أعلن انحيازه إلى حق فلسطين وشعبها الواحد بكافة أطيافه بوطن حرّ وبحقه في العودة من شتاته وحقه بأملاكه وهويته الفلسطينية.
أوقفوا عنه راتبه، أوقفوه على الحواجز لإذلاله، حتى أنهم سمّموه، باسم عقاره عند الاسرائيلي وحده، بقصد فتح باب التفاوض معه، ولم يتراجع عن ثبات مواقفه.
أيضا عندما هاجمت إسرائيل حي سلوان ومخيم جنين ذهب متضامناً مع أهل الأرض يحثهم على البقاء وعلى الاستمرار في مواجهتهم ومقاومتهم. وعندما سألوه عن موقفه من الدولتين في فلسطين المحتلة أكد على دولة واحدة، وأيضاً سألوه عن الحج المسيحي إلى القدس قال لهم نريدكم محررين لا حجاج وأكد أنه مع موقف الأنبا شنودة من الحج المسيحي وإلى القدس، أي بعد تحريرها.
هذه المواقف كلّها جعلت من المطران عطالله حنا، ليس مطران القدس وحسب بل مطران العرب بحق، وجعلته بمواجهة احتلالين، الاحتلال الاسرائيلي وكذلك الإحتلال اليوناني المستمر لكنيسته منذ نحو خمسائة عام والذي يعتبر أنه بموجب هيمنة الكنيسة اليونانية وبطاركتها اليونانيين، فقبر المسيح هو ارض يونانية وملك خاص لهم …
هذا الأمر يعود إلى عام 1534 م عندما كانت المصلحة العثمانية تقتضي إرضاء اليونان وتأمين المنطقة الغربية بينما اعتبرها اليونانيين استعادة ارث لهم منذ زمن اسكندر المقدوني. وهكذا جرت عملية اختطاف الكنيسة من أيدي الأرثوذكس العرب.
وللمصادفة حصل ذلك عند إقصاء بطريرك القدس الارثوذكسي العربي عطالله الثاني من القدس، إلى القسطنطينية، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية، ولم يسمح له بالخروج منها أو العودة إلى القدس حتى وفاته، وعين يومها مكانه البطريرك اليوناني جرمانوس. وتم مذاك اختطاف الكنيسة ونقلها إلى البطاركة اليونانيين حيث “يوننت الكنيسة” وتم تأسيس هيئة دينية جديدة تدعى “اخوية القبر المقدس” مؤلفة من رهبان يونانيين حصراً ومنهم ينتخب اي بطريرك مستقبلي. وكذلك منهم ينتخب السينودس، ولليونانيين وحدهم حق التصرف بٍملكية الأموال والاوقاف.
يمكن الإشارة أن دوراً قد لحظ للانتداب البريطاني من أجل جل المواجهة المستمرة بين الكنيسة العربية وبين الكنيسة البطريركية وهي بأيدى يونانية، وأدى إلى بعض التنازلات اليونانية، ويسجل هنا دور للروس مع العثمانيين، مما أدى إلى تشكيل مجلس مختلط يضم رجال دين وعلمانيين ارثوذكس من العرب واليونانيين، كما ضم رهبان عرب أيضاً إلى اخوية القبر المقدس ثم انتخاب مجالس ملية في كل قضاء مهمتها النظر في الأوقاف والعقارات. ولكن بقي القرار الأول والأوحد في المالية والأملاك للبطريرك اليوناني، وبقي الاختيار للبطريرك أيضاً، أن يكون يونانياً.
مؤخراً كشف أبناء الكنيسة العرب بالوثائق عن الصفقات التي أبرمتها البطريركية اليونانية مع المستوطنين، وبات جلياً ان البطريرك تيوفيلوس هو المسرب الأكبر للأملاك التي باعها بيعاً مطلقاً وبسعر زهيد أو أجرها إيجارا طويل الأمد، 99 عاماً لأماكن مهمة جداً، وكلّها في القدس.
يمكن الإشارة هنا أن الكنيسة الأرثوذكسية هي أغنى الأوقاف في القدس. وقضيتها ليست قضية دينية وحسب، بل هي وطنية بامتياز ولو أجرت فصولها ضمن المؤسسة الدينية، هي تمس الوجود الوطني العربي لأبناء البلاد. يقول في هذا المجال أليف صباغ عضو المجلس المركزي الارثوذكسي، ” لولا بيع الأوقاف من البطريركية اليونانية، لما كان هناك القدس الغربية “. إلى هذا الحد وصلت هيمنة البطريركية اليونانية من موقعها في القدس، في مواجهة الكنيسة الارثوكسية العربية، التي هي مجموع المؤمنين.
المؤسف أن البطريركية بواقعها اليوناني الحالي، لا زالت تسرب أراضي وعقارات الكنيسة، مرة من خلال سماسرة يحملون وكالات من البطريرك أيرينيوس السابق الذي أجبر على التنحي، أو من خلال البطريرك الحالي تيوفيلوس الذي حل محله، والمطالب اليوم بتنفيذ تعهداته بإعادة عقارات باعتها الكنيسة سابقا.
اليوم تأتي قضية نفي المطران عطالله حنا في القدس، لتحرك مجدداً قصة الأملاك المسرية بيعاً وإيجاراً، كما انها تأتي في خضم المواجهة الوطنية الفلسطينية القائمة ضد الإستيطان الصهيوني وفي أجواء خطيرة يتعرض لها المسيحيون في فلسطين، من هجرة وتهجير ومن عنف واضطهاد واستهداف في كل أمتنا.
المطران عطالله حنا، هو صوت صارخ ومدافع عن ما تعيشه بلادنا في مواجهة الاضطهاد والعنف والظلم من فلسطين إلى الشام وإلى العراق ولبنان. تجده حاضراً بخطابه الوطني والقومي دائماً، هو مزعج للاحتلال دون شك، يعيق مخططاته بما يوازي جبهة كاملة نظراً لمكانته ورصيده المحترم. يواجه اغتصاب الأرض واغتصاب الكنيسة معاً، وفي وجهه إرتهان الأنظمة العربية. إن السلطة المعنوية للسلطة الفلسطينية، وكذلك الوضعية القانونية للمملكة الأردنية مع البطريركية يسمحان لهما بالتدخل وإبطال القرار، لولا الهيمنة الاميركية على قرارهما ولولا العلاقة الوطيدة التي تربط البطريرك اليوناني والدولة اليونانية بالولايات المتحدة الاميركية وبالتالي بدولة الكيان الصهيوني.
إن قرار نفي المطران عطالله حنا اليوم ولو إلى داخل فلسطين، أي عكا، بشبه إلى حد كبير نفي المطران ايلاريون كبوجي إلى خارج فلسطين عندما اختار المواجهة للمحتل ومساندة أهل الأرض. إن المواجهة اليوم هي أيضا تشبه تلك لأنها مواجهة مستمرة ضد الإستيطان وسلب الأرض وتهجير مالكيها وهي باقية بإرادة الوعي الذي تجذر وعزم الشباب المصمم على البقاء وعلى الصمود بأهلها وبصمودهم ولن تقوى عليها أبواب الجحيم.