قراءة في السيرة الذاتية الأدبية لسحر خليفة، “روايتي لروايتي” الجزء الثاني

المقاتلة العنيدة التي لا تعرف التعب والاستسلام، ما زالت ترسم بكتاباتها طريق خلاص الوطن.

في تجربة فريدة، تزدوج شخصية الكاتبة فتغدو في الوقت عينه قارئة وناقدة لرواياتها، تشكل تلك الروايات محطات لما أطلقت عليه الروائية اسم السيرة الذاتية الأدبية، حيث يكون الحديث عنها ذريعة لرواية الأحداث السياسية والأمنية والاجتماعية، التي أحاطت بمرحلة الكتابة، وتحليلها، فتلك الروايات لم تكن يوماً منفصلة عن الوعي السياسي لدى كاتبتها وإحساسها بالمسؤولية لإيجاد مخارج لشعبها من المآزق والكوارث التي طبعت تاريخه، فسحر خليفة، تحمل رسالة إنقاذ شعبها وأرضها أولاً، ثم تفكر بالمدى الأدبي، وفي هذا تتجلى قيم تميزها عن غيرها من الأدباء الذين يعيرون الجزء الأكبر من اهتمامهم لجمهور القراء وما يثير إعجابهم، ولما هو رائج من المواضيع.

تتحدث سحر خليفة عن رواياتها، مشيرة إلى الظروف التي ساهمت في دفعها إلى كتابتها، وتسرد تاريخ فلسطين المعاصر على وقع الروايات، تحلل أسباب الخراب، ترصد التحولات بين الأمس واليوم، تشير إلى مكامن الخلل، ولا توفر أي جهة مسؤولة عما آلت إليه الأمور، كل ذلك لا يقلل من أدبية الرواية وقيمتها الفنية، فالكاتبة تجيد المزج بين المتخيل والواقعي، بين الشخصيات التاريخية (أي الحقيقية) والشخصيات المتخيلة المنسوجة من خيالها الخصب، لكن، حتى تلك الشخصيات المتخيلة، تقول عنها الكاتبة إنها “تتكئ” على شخصيات حقيقية مأخوذة من الواقع، من دون أن تقع في شائبة التسجيل، إذ “لا تسجيل في الأدب حين تتدخل ريشة الكاتب ومخيلته في تلوين الواقع وتشذيبه وتكثيفه، وإعمال الانتقائية في اختيار الأحداث والشخصيات والمشاهد” (ص. 36)، فبالحِرَفِية نفسها التي عملت فيها على حياكة رواياتها التي يتلازم فيها تشويق السرد ومتعته مع دراسة الواقع وتحليله، كتبت خليفة سيرتها الذاتية الأدبية، التي لا تفقدها دراسة الشخصيات والأحداث متعة القراءة، ولا تعزلها جمالية الكتابة عن ميزتها التحليلية التي تجعل منها كتاباً سياسياً واجتماعياً، يشكل مرجعاً موثوقاً للباحثين في أسباب أزمة فلسطين بشكل خاص والأمة بشكل عام.

تعزو خليفة أسباب الهزائم إلى النقائص الثقافية والتخلف، مشيرة بشكل خاص إلى مكانة المرأة في مجتمع يظن أن بإمكانه أن يتقدم ويتحرر، إن أبقاها في الخلفية ساكنة صامتة غير فاعلة.

في ثلاثيتها “أصل وفصل” و”حبي الأول” و”أرض وسماء”، تغوص سحر خليفة في تاريخ فلسطين، باحثة عن أسباب الهزائم المتكررة التي لحقت بشعبها، عما هو أبعد من مخططات العدو والتآمر الدولي، متسائلة عن القصور الاجتماعي والثقافي، عن الجهل والتخلف والفقر، عن قيادات فاسدة أو ضعيفة، عن غياب الوعي، فتأتي ثلاثيتها وسيلة من وسائل سد الثغرات المعرفية، وبالإضافة إلى دراسة حال الشعب العامة إبان النكبة والنكسة، تقدم أنموذجاً لشخصيات تاريخية حقيقية حملت الهم الوطني وتصدت للاحتلال ولتشظي المجتمع، سبحت عكس تيارات عاتية، وبقيت تقاوم حتى الرمق الأخير: وسط الشخصيات المتخيلة التي تنسج حولها حكايتها، تلمع صورة الأشخاص التاريخيين الثلاثة الذين منحتهم دور البطولة في كل واحدة من روايات الثلاثية: عز الدين القسام، عبد القادر الحسيني وأنطون سعاده.

في رواية “أرض وسماء” تكرس الروائية العشرات من الصفحات الناتجة عن قراءات طويلة ومعمقة لتراث الزعيم، وللكثير مما كُتب عنه للحديث عنه، ورسم ملامح شخصيته والإحاطة بفكره، وفي “روايتي لروايتي” تعود إلى الأسئلة الأولى التي دفعتها إلى البحث عن هذه الشخصية التي سمعت عنها الكثير ممن أعجبوا بسعاده وتبعوا نهجه، كما ممن سعوا إلى تشويه صورته.

“فمن هو ذاك البطل، ذاك الزعيم المختلف والمخالف لكل ما جاء به الساسة المناوئون لمشروعه؟ من هو ذاك الرجل الذي أراه الآن بعين الكاتبة الناقدة والروائية الملتزمة؟ كيف أراه بعد أن بحثت عنه لسنوات، ودرسته؟

أراه الآن بعد طول بحث وتأمل، أراه المفكر والمصلح، شهيد الوطن والفكر والمناقب، ورائد نهضة اجتماعية حقيقية في بلد منهوب مهدور آسن…” (ص.234)، تكتب أنه فريد، مختلف عن كل القادة الذين عرفهم العالم العربي، فهو مثقف، متذوق الموسيقى، ناقد أدبي، عالم اجتماعي، صادق، جريء… تبحث عن سر شخصيته الفذة في نشأته، وتتابع مسيرته حتى تأسيس الحزب والملاحقة والاعتقالات، تحكي عن حياته كما قرأتها، لكنها، في الرواية، تزيد عليها مسحتها الفنية والفكرية، فتخلق حوارات معبرة بينه وبين الشخصيات المتخيلة، تملأ فراغاً هنا وتكمل حادثة هناك، وربما كانت أهم إضافة لها هي تخيل وتصويربقعة جغرافية محددة، يطلق عليها الزعيم اسم الوادي السعيد، حيث يطبّق مع رفقائه مبادئ الحزب ونهجه، ويقدمون أنموذجاً مصغراً لما يمكن أن تكون عليه سورية الطبيعية وفق رؤية سعاده.

هكذا أدخلت سحر خليفة أنطون سعاده إلى عالم الرواية، فساهمت في إيصال فكره وسيرته إلى أكبر عدد من القراء، طرحت أسئلة ذكية، قدمت رؤية جديدة وإضافات مثيرة للاهتمام، وأنصفت تلك الشخصية التاريخية التي خانها أو تناساها الكثير من الكتّاب.

كل كتاب جديد تقدمه لنا هذه الكاتبة غير العادية، يسهم في دحر الظلام المسيطر على آفاقنا، لهذا نحن تواقون لملاقاة فكرها النيّر مرة جديدة في الجزء الثالث من “روايتي لروايتي” الذي وعدتنا به.