منير الحايك

دكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية في بيروت.
له في النقد الأدبي: أدبية المكان في الرواية الفلسطينية (دار أبعاد)
في الرواية: – عن الدار العربية للعلوم ناشرون: مترو دبي – 88 – القبر رقم 779

  • عن دار الفارابي: جامع أعقاب السجائر (القائمة الطويلة لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية 2023)
    يكتب قراءات نقدية للإصدارات الروائية العربية الجديدة في جريدتي الأخبار والديار.

مقطع من رواية “جامع أعقاب السجائر” – 1
“في الحافلة التي أقلّتهم إلى بيت مري، عاد مصطفى لينضمّ إلى رفيقَيه، تحدّثوا عن السهرة، وعن الزغلول الذي قد لا يحضر، فقد سمعوا في الراديو أنّ أخاه قد مات، في يوم الحفلة، ما هذا الحظّ العاثر! قال حسان، إن لم يحضر الزغلول تفقد السهرة ألَقها وحلاوتها وعذوبة الأوف فيها. لا يا صديقي، طالما أن طليع حمدان سيقود الجوقة فلا فرق إن حضر الزغلول أم لا! وهكذا استمرّ الحديث حول السهرة وحول الزغلول ومَن الأفضل، مَن أعمق وأفضل ومن صوته أعذب ونفَسه أقوى ورنّته تُعلي أصوات المستمعين بالآه والأوف أكثر!
لشدّة حماسه، راح مصطفى يقول الأوف، ويضرب الكرسيّ أمامه في الحافلة كالدفّ بين يديّ شاعر الزجل، غير آبه بالجالس على ذلك الكرسي، فتكاد تظنّه أنهى نصف قنينة عرق، كان في حالة من الفرح والنشوة لا توصفان. لم ينزعج من كان جالسًا على ذلك الكرسي، بل استدار وأخذ يصفّق ويقول الأوف، وانضمّ جميع من كان في الحافلة تقريبًا إلى الجوقة، فكأنهم كانوا بانتظار من يقوم بافتتاح حفلتهم الخاصة، وهكذا استمرّ مصطفى وآخرون بالغناء وترديد الردّات بعد انتهاء أحدهم، يضربون الكراسي أمامهم على إيقاع الزجل، يرافقهم أحيانًا السائق بترديد الإيقاع من خلال زمّور البوسطة، إلى أن وصلوا إلى ساحة القلعة، حيث الحشد الكبير من الناس، بانتظار أن تُفتح الأبواب. هناك قفز الجميع، ذهب من هو من أهل المنطقة إلى بيته أو عمله، ومن كان قاصدًا الحفلة، انتظر مع هؤلاء القرويين الثلاثة، حتى فُتِحت الأبواب.
لم تخلُ السهرة كما يعلم الجميع، وأظنّكِ بعيدة عن هذه الأجواء وهذه الحقبة وهذا الفنّ، من مواقف طائفية، فكثير من الحضور يفضّلون شاعرًا على آخر بسبب دينه، وبسبب طائفته، وكانت بعض العبارات التي تلفّظوا بها فيها شيء من المشادّات التي أصبحت منتشرة بين اللبنانيين آنذاك، إلاّ أنّ آلهة الكرمة، كما يسمّيها مصطفى، جعلت العرَق المعتّق الذي سيطر على عقول الجميع، من زجّالين وحضور، يطغى على كلّ الأفكار وكلّ الخلافات وكلّ المواقف السياسية والطائفية، فكانت أجمل السهرات التي شهدها لبنان، هي آخر السهرات التي سهرها مصطفى، حرًّا، جبينه عالٍ، بلا وصمة العار، تلك التي رافقته حتى مماته”.

مقطع من رواية “جامع أعقاب السجائر” – 2
“لمحَ في اللحظة التي أنهى فيها ذلك المسلَّح كلامه مع كلمة “مات” أولاده وزوجته، وهم يبكون فوق رأسه وهو في النَّعش، وقد قام الرجال بغسيله ولفّوه بالكَفن، وفكَّر هل يجب أن يعتبروه شهيدًا فلا يغسّلونه أم أنه “كلب ومات” فيجب أن يُدفَن كالفطيسة، أم أنه ضحية حرب عادية وجَب غسلها كالأموات العاديين. وفي شروده ذاك وهو يتأمّل دموعهم وصوت أمّه من خلفهم وهي تعدّده، وجد نفسه ملقىً أرضًا بعدما دفعه أحد الشبّان “متل الجَحش”، وبعدما كان جَمع المسلّحين قد كبُر وتجمهرَ أهل الحيّ ومن صادف مروره، ولكنه، عاد ووقف، وأصرّ على أنه هو من سيدقّ الباب ومن سيتحدّث مع بو داني.
فُتِح الباب، ولكن داني كان مَن فتحه، ولمح خلفه زوجته وولدين، أحدهما في العاشرة والثاني لم يتجاوز الخامسة من عمره، ولم يعرف كيف تلقّى داني الضربة، وكيف سيقَ وزوجته ووالده مربوطي الأيادي خلف ظهورهم وأوقِفوا حيث كانت وجوهم إلى جدار البيت الخارجي في الحديقة، إلى جانب باب المدخَل وشجرة الكينا، خلال لَمحة، وقد أخذ أحد المسلّحين الولدين إلى غُرفة داخل البيت.
سدَّ المسلّحون باب الحديقة، ولأنّ مصطفى كان قريبًا من داني عندما فتح الباب، فقد أصبح داخل السور بعدما سدّوا الباب، ورأى أحدهم وقد صوّب السلاح إلى ظهورهم وكان مستعدًّا ليطلق حقدَه والرصاص، فما كان منه إلّا أن وقف بصدره أمام فوهة الكلاشينكوف، وقال “قوّصني قبلن”.
جملته كانت “مانشيت” الصفحة الأولى في أكثر من جريدة، ولو أننا في زمن السوشيل ميديا، لكان الهاشتاغ #قوصني_قبلن” تصدّر جميع المواقع لأسابيع.
أتعرفين ما الغريب في الأمر، أنّ المسلَّح “نتَّش” سلاحه وأراد أن يطلق الرصاص ويرديه قتيلًا، ولكن أحدهم همس له “يا حمار، هيدا صهر حسين طرّاف، بدّك تعلّقنا مع الكبار، والله بيعلقولك مشنقتك”.
اتصلوا بالمسؤولين الحزبيين وبالشيخ والخوري وكلّ من هبّ ودبّ من الجاهات، واتفق الجميع على أن يخرج جورج وزوجة ابنه والولدين، إلى جهنّم الحمرا أو إلى مجارير الخرا لا يهمّ، ولكن أحدًا لن يستطيع أن يُخرِج داني، وهو المعروف بانتمائه إلى الكتائب، وقد يكون محاربًا وقاتلًا في بيروت، لا يعرفون، قبل أن يحققوا معه.
ما حصل فيما بعد لا يهمّكِ عزيزتي، فكلّ أيام الحرب كان فيها فوضى واعتقالات وقتل على الهوية وتشريد وذلّ، ما يهمّك هو هذا الموقف، ما قام به مصطفى، بو قاسم، الرجل الذي حمى عائلة مسيحية من الموت بصدره. هذا هو الكلام الذي لم ينتهِ حوله طيلة أسبوع، أسبوع فقط، ماذا تظنّين؟ فقد طوى الخبر النسيان مع أوّل مجزرة هنا وثاني معركة هناك.
هل هو موقف بطوليّ، ودفاع عن الآخرين وبَذل النفس في سبيلهم، أم أنّ أيًّا كان لو وجد نفسه في خضمّ موقف كهذا كان سيحاول ما حاوله مصطفى؟ أم أنّ الأمر إثبات لوجود، استغلّه مصطفى واستغلّ العائلة في آن.
هذه هي قصّة جدّك، قصّة نقرأ مثلها، ونشاهد مثلها في المسلسلات والأفلام، ولكنها حقًّا حصلت، وأصبح بإمكانك أن تتحدثي عنها بلغة إنجليزية، قد تجعل منكِ كاتبة عظيمة”.