القضاء والقدر

يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “فساد القضاء يفضي إلى نهاية الدول…”.
مما لا شك فيه أنّ ابن خلدون استطاع أن يلخّص كتابًا في جملة وواقعًا حقيقيُّا ببضع كلمات.
كلّما تفكّرت في القول المذكور وقارنته بالحال الذي نعيش أيقنت على سبيل الطرفة أنّ القائل إمّا سكن هذا البلد وعرف طباع أهله أو هو فعلًا قارئًا جيّدًا لحركة التاريخ، تعلّم منها واستخلص نتائجها.
لا نبالغ حين نقول أنّ القضاء حقيقةً هو مؤسسة الشعب الأولى وملجأه الأخير، إليه يأوي لحفظ حقوقه أو استعادتها، ومن خلاله يشعر بصون كرامته أو التفريط بها وفي ثناياه يدرك مدى قوة الدولة وهيبتها.
ليس عبثًا أن يقترن القضاء في لبنان بمختلف معاني القضاء والقدر، وعليه ينطبق المثل القائل “الداخل مفقود والخارج مولود”.
فإذا أردنا التحدّث عن الفساد في لبنان علينا البدء بالفساد القضائي، والفساد بمفهومه العام لا نقصد به الرشوة فقط بل إنّ تنفيذ الأجندات وتوزيع الولاءات يعتبر أكثر ضررًا من الفساد المالي.
فكيف لوطن أن يحيا وقضاؤه معطّل؟
وكيف لحاكم أن يستقيم ومن يفترض به مراقبته ومحاسبته هو أحد زبائنه؟
ليست هذه هي المرة الأولى التي يعتكف فيها القضاة احتجاجًا على أوضاعهم الماديّة والمعنويّة التي يمرّون بها وفي ذلك حق لا يمكن لأحد أن ينكره عليهم، إضافة إلى أن ظروف العمل في قصور العدل أصبحت أكثر من مأساوية والمحاكم أضحت “مظلمة موحشة”، ولكن أليس هذا هو حال البلد بمختلف قطاعاته وإداراته؟
أوليس غياب المحاسبة رغم انتشار الفساد والهدر هو من أوصل الأوضاع إلى هذا الدرك؟
أليس من الأجدى أن يعتكف القضاة في سبيل مواجهة الخلل داخل الجسم القضائي ومواجهة تسلّط السلطة السياسية وتوغّلها في القضاء؟
وألا يصبح الاعتكاف منطقيًا أكثر ووطنيًا جامعًا إذا كان الهدف منه الضغط من أجل إقرار قانون حقيقي يكرّس استقلاليّة السّلطة القضائيّة؟
منذ عام تقريبًا علّق المحامون حضورهم جلسات المحاكم لأشهر طويلة وكان هدف التعليق سببان، أوّلهما ضرورة تصحيح العلاقة بين المحامين والقضاة لأنّ شوائب كثيرة قد اعترتها، وثانيهما من أجل الضغط لإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية.
مرّت الأيّام وتلتها الأشهر وإن كان قد تحقّق شيء من المطلب الأوّل فإنّ المستغرب أنّ القضاة لم يلاقوا المحامين في المطلب الثاني، اللهم إلّا قليلًا منهم. وانتهى التعليق وعاد المحامون للحضور إلّا أنّ القضاة لم يعودوا وأعلنوا الاعتكاف وبقيت صروح العدالة صحراء قاحلة تتجنّب القوافل السير في رحابها.
تقول التجارب أنّ فساد القضاء بفساد النظام السياسي، فالنظام السياسي الفاسد يبحث عن قضاء فاسد مثله كي يغطّي على فساده ويبرِّئ ساحته من أي تهمة. وإذا كان في لبنان نظام سياسي فاسد بالأغلب فإنّ الأمل أن لا يكون القضاء غطاءً لهذا النظام وأن يكون فعلًا مرجعًا صالحًا ينصف المواطن ويعيد إليه حقوقه على حساب أيًّا كان الشخص أو الجهة أو المرجعية… وإنّنا إذ نكتب اليوم في هذا الموضوع فهو من باب الحرص على سلطة نسعى حقيقةً لاستقلاليتها ولأنّنا فعلًا نجد فيها الباب شبه الوحيد لخلاص الدولة والمجتمع.
وفي السياق عينه فإنّنا إذ نسجّل لنادي القضاة في لبنان مطالبته الدائمة بإقرار قانون استقلالية السلطة القضائيّة إلّا أنّنا نتمنّى أن يتحوّل اعتكاف القضاة إلى فرصة هدفها الضغط من أجل إقرار القانون المذكور، هذا بالإضافة إلى بعض المطالب الأكثر من ضروريّة لتحصين السلطة القضائيّة بحصر تشكيل مجلس القضاء الأعلى بالقضاة فقط على أن يكونوا منتخبين من جميع القضاة العدليين لفترة زمنيّة محدودة رئيسًا وأعضاءً، كذلك اعتماد مبدأ عدم نقل القضاة دون رضاهم إلّا في حالات معيّنة كانقضاء المدّة أو ارتكاب مخالفة مسلكيّة أو عدم أهليّة محدّدة، والأهم هو حصر صدور التشكيلات القضائيّة بمجلس القضاء الأعلى من دون أي دور لوزير العدل مع تحديد معايير موضوعيّة لهذه المناقلات مبنيّة على العلم والكفاءة والنزاهة…
هذا غيض من فيض قد لا يتّسع مقامنا ها هنا لذكر المزيد إلّا أنّ الانطلاق بورشة إصلاحيّة في السلطة القضائيّة أصبح حاجة ماسّة للوطن كما للمواطن…

المحامي أحمد حسن

ختامًا، يقول الإمام الغزالي “لولا القضاة السوء لقلّ فساد الملوك خوفًا من إنكارهم…”، هي دعوة نوجّهها لكلّ من يعنيهم الأمر في هذا المضمار أن أخرجوا القضاء من دوّامة القضاء والقدر واجعلوه واحة حريّة وحق وعدالة تناصر صاحب الحق الضعيف على حساب القوي ذي النفوذ، تقف مع المودع بوجه من سرق قوتَه وقوت عياله. أعيدوه ساحة يقال في ثناياها ما لا يمكن أن يقال خارجها. قفوا جبالًا في وجه الفساد والفاسدين وصححوا خلل النظام، وانفضوا الغبار عن المحاكم فنحن في أحوج ما يكون إلى العدالة، أعيدوا للقضاء مجده كي يعود الوطن إلى الشعب وسوى ذلك هراء سندفع جميعًا الثمن من إهماله.