الأزمة المالية والنقدية على وقع الفساد والجيوسياسة

إنتهت سنة 1990 حرب ال15 عام، بما خلَّفَتهُ من دمار شامل، على دولار 500 ليرة لبنانية ودينٍ عام شبه معدوم. إستغلت المصارف، الناجي الوحيد من المؤسسات، بالتكافل والتضامن مع مجموعة ضيقة من الأقطاب، توترات المرحلة الإنتقالية والتقلبات السياسية المترتبة عنها، لإطلاق حملة تلاعب بالعملة الوطنية تخطى معها الدولار عتبة ال 3000 ليرة لبنانية.

تتوجت هذه المرحلة بتوافق خارجي وبين أطراف اللعبة من أهل السياسة والمصارف والبنك المركزي لإعادة تخفيض سعر الدولار تدريجياً بدايات العام 1993 حتى تثبيته نهائياً على 1500 ل.ل. عام 1999، وإستبدال لعبة القطع بألعوبة فوائد قامت من خلالها المصارف بتوظيف ودائع زبائنها ورساميلها، المحولة إلى الليرة في ذروة إرتفاع الدولار، في إقراض الدولة بفوائد باهظة تخطت 43%، في حين لم تتعدى مثيلاتها العالمية 2% يومها. أنتجت هذه الفوائد وعمليات سواب على إصدارات سندات الخزينة ريوع خيالية وهمية للمكتتبين بها، وراكمت ديناً عاماً بفعل خدمة الدين في قيود مالية الدولة، وسندات خزينة في موجودات ميزانيات المصارف، وأرباحاً دفترية في خصومها، تمَّ توزيعها على مساهميها وحسابات حلقة ضيقة من المستفيدين، غُرِفَت سنوياً من أموال المودعين لديها، أمام أعيُن وصَمت مؤسسات الرقابة الأجنبية والمنظمات الدولية، وفي ظل تسويق إعلام مأجور لإيجابيات سياساتها الواهية، وتوزيع الأوسمة على مرتكبيها في المحافل الدولية.

وقد بدت أولى أشاير مخاطر هذه المرحلة المستورة الأدوات والأهداف، حين تخطت سندات الخزينة المكدسة في موجودات المصارف قيمة الدين العام نفسه، فعمد المصرف المركزي إلى الكشف عن أولى هندساته المالية عام 2015، بعد العديد من العمليات المستورة والمشبوهة التي تجلت بإستبداله ما فاق من السندات على الدين العام نفسه في ميزانيات المصارف بودائع وهمية بإسمها في ميزانيته، لتفادي انكشاف أمر مهزلة مُدَبَّرة لنهب المال العام والخاص، بغطاء وتشجيع دولي.

وأتت التطورات الإقليمية في الحقبة الأخيرة لتعكس إنقلاب المشهد العسكري والأمني في سورية والعراق واليمن، على وقع التحولات الدولية والصراع القائم بين الشرق والغرب على مراكز القوى والأسواق التجارية ومصادر الثروات الطبيعية والمواد الأولية. فأدى تآكل هيبة نظام القطب الواحد، وتعاظم نفوذ قوى دولية جديدة في العالم، إلى إستبدال الغرب صيغة الدبلوماسية في إدارة الشأن اللبناني، المنسوجة سياساتها عادةً في الأروقة المغلقة لتدارك إنهياره ووقوعه في المحظور، بصيغة القبضة الحديدية على مفاصل النظام المالي فيه. فترك لمطبخ الأجهزة الأمنية وغرف عمليات تقنية وسياسية مهمة إحكام اليد على الوضع المالي والاقتصادي والإجتماعي والمعيشي لتضييق الخناق على عنق محور الممانعة وتحقيق إنجازات جيوسياسية بملفات إستراتيجية أهمها مسك أوراق المنطقة من لبنان بضرب المقاومة في دارها، وضع اليد على الثروات المالية في المصارف وعلى الثروات النفطية في المُتَوَسِط، قطع أوصال الحياة والتبادل التجاري مع الداخل، إعادة تدوير أموال المغتربين اللبنانيين والنازحين والصناعيين السوريين والمتمولين العراقيين واليمنيين المودعة في المصارف اللبنانية إلى الأسواق الدولية، دمج النازحين السوريين وتوطين الفلسطينيين وتحقيق التطبيع، بما يكفل قلب المعادلة الأمنية والسياسية لإستعادة نفوذه وتمتين هيمنته على المنطقة.

وفي عداد التَّبَدُل الواضح هذا في مزاج الغرب تجاه الكيان اللبناني، إعتُمِدَ القطاع المصرفي في لبنان بوابة العبور إلى هذه الإستهدافات، إذ سَهُلَ تطويعه في ظل النظام المالي العالمي القائم على السويفت، وتقليبه في إطار خطةٍ بدأت بإستدراج الأموال بفوائد مُغريَة، ساهم المصرف المركزي في تأمين التمويل والغطاء لها بهندسات وفبركات مالية، وفي سِتر أزمة سيولة خانقة نتجت عن توزيع المصارف أرباح عن فوائد دين عام من أموال المودعين دون تخفيض قيمتها الإسمية البالغة 175 مليار دولار، مقابل إنتفاخ صُوَري في حساب ودائعها لدى مصرف لبنان بقيمة 140 مليار دولار.

أفضت هذه الخطة إلى إطباق المصارف على الودائع ورفض العمليات المصرفية المعتادة كالسحوبات والتحويلات والشيكات، وتحويل الاقتصاد إلى نقدي مُدَولَر، مع تَعَدُد أسعار قَطع سَمَحَ بإجراء هيركات على الودائع بشطب قيمتها الإسمية المتبقية من حسابات المصارف في عملية فساد وإفساد موصوفة، تَحَكَّمَ بها مصرف لبنان والمصارف وكبار الصيارفة والمتمولين، جَعَلَت قيمة الليرة اللبنانية رهينة المنصات الوهمية والتعاميم الملغومة من مصرف لبنان، تَتَأرجح مقابل الدولار وباقي العملات الأجنبية بحسب التوترات والإنفراجات السياسية المحلية والإقليمية. الأمر الذي جعل القطاع الخاص تحت رحمة المصارف وقبضة الخارج، يستجدي السحب والتحويل، لا يمكنه دفع فواتيره لعملائه ومُوَرديه في الخارج إلا إذا أتى بالسيولة، ولا السحب لدفع رواتب موظفيه إلا بالقطارة. فأطبَقَت كمّاشة المصارف أيضاً بالتواطؤ مع محتكري المواد النفطية على جميع مفاصل الحياة الاقتصادية والمرافق العامة، في لعبة دَعمٍ أدارها المركزي وتذرع بها لتبرير نضوب العملات الأجنبية من مخزون القطع لديه لرفع أسعار الصرف في منصة صيرفة والسوق السوداء.

فنجحت هذه الممارسات في مرحلةٍ أولية في فقدان السلع الأساسية والمواد الأولية من الأسواق وبمرحلةٍ تالية في رفع الأسعار وتدهور قيمة الأجور والمداخيل، مما أدى إلى تغيرات جذرية في تصرفات القطاع الأسري وفي هيكلية البنية الإجتماعية، وإلى ضرب القطاعات الإنتاجية من صناعية وزراعية، بالإضافة إلى شل عمل المرافق الحيوية من كهرباء ومياه ونقل ومواصلات ومؤسسات وإدارات عامة وهيئات تربوية وأجهزة أمنية ورقابية وسلطة قضائية.

على ضوء هذه المعطيات والوقائع، فإذا كان العدو قد أفاد من ظروف الصراع الأُمَمي، ومن تلاقي مصالحه مع مصالح حلفائه الغربيين الإستراتيجية في المنطقة، فنجح في نقل المواجهة من الحدود إلى الداخل اللبناني، وفي تحويل قواعد الإشتباك من عسكرية إلى مالية حيث أثبتَ بأسه، فدَمَّر البنى الاقتصادية والإجتماعية والمؤسساتية والبشرية، فهل سينجح اللبنانيون في فهم قواعد اللعبة وقلب قواعد الإشتباك هذه، بتجيير مسار التحولات الإقليمية والدولية لمصلحتهم، وبالتلاقي والتلاحم الداخلي بين جميع المكونات السياسية في مواجهة آفة الفساد التي سنحت بالخَرق المالي والاقتصادي الذي أفرغ البلد من ثرواته المالية والبشرية وهَد مقومات صموده الحالية، أم أنهم سيستمرون في تغليب منافعهم الشخصية والفئوية والإستثمار في الأزمة الراهنة والإنقضاض على بقايا وطن ما زال الفساد والمحاصصة الطائفية والفئوية يشكلان عاملا المخاطر الأهم في تضييع فرص إسترجاع ثرواته المالية الحالية وفي هدر ثرواته النفطية المستقبلية ؟

د. بشير المر

خبير اقتصادي ومالي