روسيا والأطلسي… الحل النهائي

روسيا والأطلسي… الحل النهائي

أريد أن أوضح أولاً أنني أستعمل مفردة “الغرب” للدلالة على مجموعة دول متناغمة تضم الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، إضافة إلى الحلفاء الآخرين في مناطق أخرى من العالم أمثال اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا وأندونيسيا وغيرها! وتقود واشنطن هذا المعسكر “الغربي”، وتوظفه في معاركها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وقتما تشاء.

ولنعد الآن إلى موضوعنا المتفجّر. فبينما كانت وسائل الإعلام الغربية تحتفي بـ”الانتصارات” التي تحققها القوات الأوكرانية ضد الجيش الروسي في بعض المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، كانت أصوات المدافع تدوّي في أواسط آسيا. وقد يبدو للوهلة الأولى أن التوترات الآسيوية لا علاقة لها بالحرب التي تديرها المنظومة الأميركية ـ الأطلسية ـ الأوروبية (الغرب) ضد روسيا على الأراضي الأوكرانية.

فما الذي يربط بين “التقدم الميداني” الذي تباهى به الرئيس الأوكراني فلودومير زيلنسكي، مهدداً بإلحاق الهزيمة بروسيا… وبين انفجار الوضع على الحدود بين طاجيكستان وقرقيزستان، ثم عودة الاشتباكات بين أرمينيا وآذربيجان؟ ولا ننسى بالطبع استمرار الفلتان الأمني في أفغانستان التي انسحب منها الأميركيون وحلفاؤهم عسكرياً، وظلوا فيها أمنياً!

دعونا نبدأ بأوروبا الشرقية المتاخمة للحدود الروسية الممتدة من بحر البلطيق في الشمال نزولاً إلى البحر الأسود جنوباً. أوكرانيا وبيلاروسيا هما الدولتان الحدوديتان مع روسيا اللتان لم تنضما بعد إلى “الناتو”. علماً بأن المخطط “الغربي” نجح في إيصال نظام مؤيد له في كييف، وأخذ يعد العدة لضمها رسمياً إلى المعسكر المعادي لروسيا. وكادت بيلاروسيا نفسها تتجه “غرباً” بعد التظاهرات الحاشدة لإسقاط الرئيس ألكسندر لوكاتشنكو بين 2020 و2021، لولا أن السلطات أنزلت الجيش إلى الشوارع بدعم قوي وواضح من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

أدركت موسكو باكراً طبيعة المخطط “الغربي” الهادف إلى تطويقها وعزلها عن أوروبا. ووصلت إلى قناعة بأن الحوار الديبلوماسي مع “الغربيين” لن يؤدي إلى نتيجة في ظل التوازنات الراهنة. وأخذت توجه الرسائل المباشرة وغير المباشرة إلى “الغربيين”، على أمل أن يتفهموا حاجاتها الأمنية الاستراتيجية. ويمكن النظر إلى حرب جورجيا سنة 2008 كواحدة من تلك الرسائل. لكن “الغرب” تجاهلها ومضى قدماً في احتواء أوكرانيا تدريجياً، إلى أن تدخل الجيش الروسي واندلعت المعارك التي لا تبدو في الأفق مؤشرات على قرب انتهائها.

الولايات المتحدة هي التي ترسم مسار الحرب، ومعها الشريك الاستراتيجي بريطانيا. وقد بات من الواضح أن المخطط الأساسي لواشنطن ولندن إسقاطُ النظام في روسيا كحد أعلى، أو استنزاف مقدراته الاقتصادية كحد أدنى. ولتحقيق هذا الهدف، تسعى واشنطن إلى فتح جبهات جديدة ضد روسيا خصوصاً في المناطق ذات الحساسية الداخلية والإقليمية. وتعتبر منطقة آسيا الوسطى الخاصرة الرخوة بالنسبة إلى روسيا لاعتبارات دينية وعرقية واقتصادية. وفي حال اندلاع صراعات أو حروب محلية في جمهوريات كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي سابقاً، فإنها سرعان ما تتفرع باتجاهات عدة. وستتحمل موسكو تبعات الصدامات هناك، مما سيؤثر عليها في معركة أوكرانيا التي تديرها وتمولها المنظومة “الغربية”!

إن التحديات التي تواجهها موسكو، سواء في أوروبا الشرقية أو في آسيا الوسطى، تُعتبر مسألة مصيرية بالنسبة إلى مكانتها الاستراتيجية على الصعيد العالمي. وهذا أيضاً ما يعرفه “الغرب” الذي يشعر الآن بأن أمامه فرصة تاريخية لتحجيم روسيا، والقضاء على دورها كقوة عظمى. ويبدو لنا أن قرار تحريك أكبر قدر من الملفات المؤذية لروسيا بات في حيز التنفيذ. وما يحدث في جمهوريات آسيا الوسطى لا  يُقصد به فقط إثارة الاضطرابات قرب الأراضي الروسية، بل التأثير على الداخل الروسي في المناطق ذات الأكثرية المحمدية.

وهناك أيضاً عامل آخر حيوي في المعادلة التي تتمظهر الآن من خلال تلك الصراعات والاشتباكات. صحيح أن “الغرب” يصوّب ناحية روسيا في الأساس، غير أن عينه تركز على الصين التي ترتبط بعلاقات متينة مع روسيا تكاد ترقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي. وإذا كان ما يجري في أوكرانيا حالياً هو الحرب بالجيش الأوكراني لكن بسلاح “الغرب” وأمواله وخبرائه، فإن المواجهة مع الصين تكتفي في هذه المرحلة بالضغط السياسي والتجاري والإعلامي في محاولة لإبعاد بكين عن موسكو. ولا شك في أن تحريك ملفات آسيا الوسطى سيكون بمثابة هز العصا بوجه القيادة الصينية، كون المقاطعات ذات الغالبية المحمدية في الصين تشهد بعض الاضطرابات، ويمكن بسهولة أن تتأثر بما يجري في الدول المجاورة ذات التركيبة الدينية والعرقية المشابهة.

ولا تتوقف واشنطن عند سياسة العصا في تعاملها مع بكين، بل هي تلوّح بالجزرة أيضاً بهدف دق إسفين للتفريق بين الصين وروسيا، أو إيقافها على الحياد في الحرب الأوكرانية. ففي حين يهدد الرئيس الأميركي جو بايدن بأن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا ما هاجمتها القوات الصينية وهذا ما يثير غضب بكين وخشيتها، نرى وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن يؤكد لنده الصيني وانغ يي أن الإدارة الأميركية ما زالت ملتزمة بسياسة “صين واحدة”. لكن القيادة الصينية لا تصدق هذه التعهدات، فصفقات السلاح الأميركية الضخمة مع تايوان تعطي انطباعاً بأن كلام بلينكن الليلي يمحوه نهار التسلح بأحدث المعدات والمنظومات العسكرية. 

المعركة “الغربية” ضد روسيا تقتصر حتى الآن على الساحة الأوكرانية بين كرّ وفر، إلا أن امتداداتها الاستراتيجية تتسع شيئاً فشيئاً. وقد بدأنا نلحظ بوادرها في آسيا الوسطى، ومن غير المستبعد أن تطال شظاياها أمتنا والعالم العربي في القريب العاجل. القيادة الروسية مقتنعة بأن التراجع عن أهداف عمليتها في أوكرانيا يعني تدهور دورها الاستراتيجي عالمياً… ولا نعتقد بأن بوتين سيقبل بمثل هذه النتيجة. ولعل تحذير الرئيس الأميركي جو بايدن من إقدام روسيا على استخدام السلاح النووي التكتيكي يعطينا مؤشراً إلى أن موسكو لن تتراجع عن أي عمل عسكري لتثبيت ندّيتها في مواجهة “الغرب” الأميركي ـ الأوروبي ـ الأطلسي!

مجريات الحرب في أوكرانيا أوصلت القيادة الروسية إلى قناعة مطلقة بأن الغرب أصبح منخرطاً بصورة شبه كاملة في المعارك. القوات الروسية تواجه الآلة الأطلسية بكل تقنياتها وأسلحتها وشبكة مخابراتها وأقمارها الصناعية و”خبرائها” الذين “يدربون” الجيش الأوكراني… إلخ. وما إعلان بوتين التعبئة العامة جزئياً سوى خطوة أولى في مسار الإعلان الرسمي بأن روسيا تحارب الأطلسيين في أوكرانيا. وليس سيناريو الهزيمة وارداً في مخططات بوتين، لأنه يعي تماماً أن الخسارة في أوكرانيا تعني نهاية الاتحاد الروسي كقوة عظمى، بل وتفكك روسيا نفسها وفق خطوط عرقية ودينية متنافرة.

لقد دخل العالم في سياق غامض من المطبات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. وإلى أن ينجلي غبار المعارك في أوكرانيا وتتكشف تداعياتها، لن يكون أمام الشعوب إلا شدّ الأحزمة، ووضع الأيدي على القلوب… وتوقع الهبوط الاضطراري عاجلاً أم آجلاً.  

أحمد أصفهاني