أيا كانت الآفاق التي ستفضي إليها قائمة المرشحين إلى الرئاسة اللبنانية، فما يستحق الانتباه اليوم هو أن المشهد الحالي ينحصر بين مرشح الوطن ومرشح صندوق النقد الدولي، أداة الخراب والفساد والتجويع في كل العالم، ناهيك بتوليه الوزارة في حكومة فؤاد السنيورة التي نالت النصيب الأكبر من حملات الذين يسمون أنفسهم اليوم ممثلي “التغيير”.
وإذا كان لبنان بكل طوائفه منكوبا بهذه العقلية، فالملاحظ أن القسم الأكبر من الأوساط التي تلتف حول مرشح صندوق النقد الدولي، هو القسم الذي ينشط في الأوساط المسيحية، التي كان من المفترض أن تلتف حول المشرح المنحاز للخيار الوطني الذي لعب دورا حاسما إلى جانب هذا القسم في أخطر اللحظات التاريخية التي تهدد فيها الوجود المسيحي نفسه.
إلى ذلك، من اللافت للانتباه أن الأوساط المسيحية اللبنانية المحسوبة على السفارات الأطلسية وخاصة الأمريكية، وسفارات النفط والغاز المسال، هم الأكثر خطراً عل المسيحية رغم أنهم الأكثر طائفية منذ نشأة هذا التيار بالذات برعاية فرنسا في القرن التاسع عشر ثم بالتنسيق مع الوكالة اليهودية.
فمن المعروف أنه وبالتزامن مع آخر سلاطين آل عثمان وخاصة عبد المجيد الأول وعبد الحميد الثاني، أدخلت تركيا نظام الحماية الأجنبية للمواطنين العثمانيين من كل الملل والنحل الأخرى، فرنسا على الكاثوليك، روسيا القيصرية على الأرثوذكس، التحالف الأنجلو ساكسوني البريطاني – الأمريكي على البروتستنت ولاحقاً على اليهود، وفي وقت قصير على الدروز (خلال الحرب الأهلية في لبنان).
ويؤكد أسعد رزق في كتابه (إسرائيل الكبرى) أن أحد أسباب اهتمام بريطانيا بالمسألة اليهودية بالإضافة لدور البافر ستيت العسكري – الأمني بين مصر والشام، هو البحث عن ذريعة للحماية الأجنبية على إحدى الطوائف. ويضيف نجيب عازوري أن المتصرف العثماني في القدس كان ينسق مع الإنجليز واسطنبول معاً لتكريس جالية يهودية في القدس.
إلى ذلك، وفق ما ذكره بني مورس في كتابه (الطائفيون العرب والحركة الصهيونية) التقى ممثلون عن العصابات الصهيونية والوكالة اليهودية مع أوساط مسيحية لغايات التنسيق، كان من بينها الأب جوزف عوض ممثلاً للبطرك أنطون عريضة، الذي يشير له البطرك الحالي الراعي كعنوان للسيادة، بالإضافة لممثلين عن حزب الكتائب، وقد امتدت هذه اللقاءات، وفق المؤرخ الصهيوني، بني مورس، بين 1933 إلى تأسيس الكيان، كما شملت الرئيس إميل إده أيضاً.
مقابل هذه العلاقات، عرفت الأوساط المارونية أصواتاً تحذر من الخطر الصهيوني، وذلك قبل الموجات السورية والناصرية والفلسطينية وأخيراً حزب الله، التي تتهمها الأوساط المسيحية السابقة الذكر بالسيطرة على لبنان.
وكان من أهم هذه الأصوات مفكر الكيانية اللبناني الشهير، ميشال شيحا، بل إن أحد المثقفين المحسوبين على حزب الكتائب هو الدكتور كمال الحاج قبل مقتله 1976، كرر أفكار شيحا.
هذا عن الجذور التاريخية للخطاب الانعزالي الذي تغذيه باستمرار سفارات الأطلسي والنفط على خلفية التوظيف الأمني والسياسي لهذا الخطاب وأدواته، والذي لم يكن في يوم من الأيام معزولاً عن تجاذبات المنطقة برمتها، سواء خلال معركة الأطلسي والرجعية النفطية ضد عبدالناصر (السني) أو ضد المقاومة الوطنية اللبنانية في مرحلة القوميين السوريين والحزب الشيوعي قبل تراجع الأخير إلى ما أنتجته الغورباتشوفية من أوهام ليبرالية بإدارة الملياردير اليهودي جورج سوروس، وجماعات الشوارع والمثقفين التي يديرها باسم المجتمع المدني، وأخيراً ضد المقاومة في مرحلة حزب الله.
وفيما يخص موقف الأوساط المسيحية المرهونة لعلاقاتها وتمويلها من السفارات الأطلسية والنفطية، تنسى أو تجاهل أن صمود المسيحيين اللبنانيين في وطنهم رغم كل هذه الظروف استند أيضاً إلى دور القوى التي يناصبونها العداء، ممثلة بسوريا وحزب الله.
فخلال الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وصلت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية إلى المعاقل المسيحية التاريخية، بما في ذلك المتن، وجبل صنين، ودير القمر، وغيرها.. ولولا تدخل الجيش السوري لكانت التعبيرات السياسية الانعزالية نفسها في (خبر كان). وبالمثل دور الجيش اللبناني بقيادة الجنرال عون في الموجة التالية.
أما خلال العشرية السوداء، التي أطلقها تحالف الشر الأمريكي – الأطلسي – العثماني، باسم الربيع العربي وبالتعاون مع محميات النفط والغاز المسال، وعبر اختطاف أوجاع الناس وتوقهم إلى مجتمعات عادلة ديمقراطية، فكان بين لبنان واجتياح داعش والعصابات التكفيرية الطائفية شعرة كادت أن تنقطع لولا الدور الحاسم لحزب الله سواء في لبنان أو سوريا.
ولو نجح داعش حينها، هل سيكون مصير المسيحيين في لبنان أفضل من المسحيين في العراق، ومن الآباء الذين خطفوا وعذبوا وقتلوا في سوريا، بعد أن دمرت كنائسهم واقتلعت أجراسهم.
ومن المؤكد أن المسألة لا تتعلق بسوء تقدير عند أحفاد الذين ربطوا مصيرهم ومصير لبنان بالحركة الصهيونية مبكراً، ثم بالرجعية النفطية والسفارات الأطلسية، بل بالارتهان التام لهم… فهم يعرفون أكثر من غيرهم دور هذه السفارات والرجعية النفطية باختلاق الدواعش ودعمهم، ويعرفون أكثر أن المحميات النفطية التي لم تسمع بعد بالبرلمان والدستور والتعددية الحزبية والمجتمع المدني، ليست معنية بها في لبنان، ففاقد الشيء لا يعطيه.
أما انتظار فيض الديمقراطية من الشمال إلى الجنوب، فدونه تاريخ من الجرائم الذرية وغيرها: القنابل الذرية الأمريكية على المدن اليابانية، وقصف فيتنام والعراق بالسائل البرتقالي واليورانيوم المخصب، وتحويل فرنسا للجزائر إلى مختبرات للقنابل الذرية والهيدروجينية، أما عن ديمقراطية تل أبيب وأردوغان الذي احتضن كل الأصوليات التكفيرية المعادية للديموقراطية، فحدث ولا حرج.