نلاحظ مؤخّرًا استخدام عبارات التشخيص النفسي الذاتي بشكل كبير، بين الأصدقاء وفي اللقاءات، فنسمع عبارات كـ “عندي اكتئاب”، “أعاني من القلق”، “زوجي نرجسي”، “أنا OCD”، ويعدّ هذا التشخيص من أبرز التّحديّات الّتي يواجهها الأطبّاء والمعالجيين النفسيين.
فمع الانتشار الواسع والوصول السهل للمعلومات المتعلّقة بالصّدمة النفسيّة والعقليّة واضطراباتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحوّل هذا الموضوع إلى موضوع مرغوب و(Trend) وجاذب، فتتمّ مناقشته من قبل أطبّاء ومعالجين ومدرّبين و life coaches وحتّى مؤثّرين (influencers).
لذلك يأتي الانتشار كأثر إيجابي وهو تسليط الضوء على موضوع الصدمة النفسية والاهتمام به والتحذير من مخاطره وعواقبه بعدما كان مهملًا ولا يتم الحديث عنه بالعلن وخلال النقاشات العامة، بل يعتبر في بعض البيئات وصمة عار ومصدر للخجل ممتلئًا بالمعلومات الخاطئة. لكنّ في الوقت عينه فتح هذا الانتشار المجال أمام غير المؤهّلين وغير المتخصّصين لإعطاء معلومات وإرشادات قد لا تمت لعلم النفس بصلة، ممّا لا ينفع المتلقّي وأحيانًا قد يضرّه العمل بها.
هذه المعلومات والمشورات والتشخيصات والأعراض أصبحت مصدرًا للتشخيص الذاتي لدى الأفراد الذين يُسقطون ما يسمعون على ذواتهم، مما يفاقم مشكلتهم ويزيد حياتهم تعقيدًا، خاصة في بلد كلبنان، حيث ارتفعت نسبة الاضطرابات النّفسيّة في السنوات الماضية، نتيجة الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة مع ارتفاع كلفة العلاج النفسي وانخفاض المستوى المعيشي لأدنى مستوياته لدى اللبنانيين.
كلّ ذلك أدّى إلى توجّه الأفراد نحو ظاهرة التشخيص النفسي الذاتي، والذي قد تصل مخاطره إلى استخدام الأدوية والعقاقير غير المناسبة للحالة، من تلقاء الذات، والّتي قد تسبّب أذى على الصعيد الجسدي والنفسي أيضًا.
فما إن تستخدم تطبيقًا للتواصل الاجتماعي حتى يقرضك محتوى نفسي ما يتضمّن (ثلاث علامات تدلّ على أنّ شريكك نرجسي)، (أربعة سلوكيات تدلّ على أنّك تعاني من الاكتئاب)، (عوارض تشير إلى أنّك تواجه الوسواس القهري).
وتأتي هذه المضامين بصور معمّمة بعيدة عن المنهجيّة العلميّة للتشخيص النفسي. يبدأ بعدها المتلقي بربط ما يسمعه وإسقاطه على ذاته ويقتنع بوجود اضطراب ما لديه، علمًا أنّه على الصعيد العلمي النفسي فإنّ العوارض لاضطرابات مختلفة قد تكون متشابهة ومتداخلة، وأنّ الأعراض قد تكون نتيجة سبب من أسباب عديدة ومختلفة قد تؤدّي لها.
يأتي هذا بالإضافة إلى أنّ مرض نفسي قد يؤدّي إلى وجود أعراض لاضطراب نفسي آخر. كلّ ذلك بحاجة إلى اختصاصي بالصحة النفسيّة لتحديد الأسباب ومصدر تلك الأعراض، وتقدير الحاجة لتدخّل طبيب نفسي من عدمها، ليقرر الطبيب بالتالي الحاجة إلى الأدوية أم لا.
تلك المشكلة باتت شائعة خاصة لدى الأفراد الذين يعانون من الإحباط ومشاعر الحزن، حيث يميلون إلى تشخيص ذواتهم بالاكتئاب والاسراع إلى استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب دون وصفة طبيّة، فحتّى لو كان التشخيص صحيحًا فإنّ طرق العلاج تختلف من حالة إلى أخرى وبحسب نسبة الاضطراب، فكيف إن كان التشخيص أصلًا خاطئًا؟! وللملاحظة فإنّ التّأخّر في التشخيص الصحيح يزيد الحالة سوءًا.
هذا وقد يكون التشخيص الذاتي عائقًا في حال قصد الفرد عيادة المعالج، فهو مقتنع باضطراب معيّن ويبدأ بوصف حالته تبعًا لتلك القناعة. وفي حال عدم تأكيد المعالج لتلك القناعات، يشكك الفرد المعالج ويتوقّف عن زيارته نتيجة للتعارض بين التشخيص العيادي والتشخيص الذاتي الذي في أحيان كثيرة يرافقه التشبث والإصرار. كذلك فإنّ عمليّة التّشخيص العيادي، والتي عادة ما تحتاج جلستين أو ثلاث، تحتاج أضعاف عدد الجلسات في حال وجود التشخيص الذاتي، وذلك للبحث عن التشخيص الحقيقي وصولًا إلى إقناع المريض به. وكلّ ذلك يؤثّر على مسار العلاج. ولا يلام المريض على ذلك، فهو يسعى للتّخلّص من معاناته والوصول للراحة النفسية. ففي أحيان كثيرة يتمسّك الفرد بفكرة وجود اضطراب ما ليبرّر سلوكياته ويرمي المسؤولية على ذلك الاضطراب ليريح نفسه وفي بعض الأحيان يهدف من ذلك الحصول على الاهتمام والتعاطف من الآخرين تعويضًا عن مشاعر نقص في الثقة بالنفس والأهمية.
وفي كثير من الأحيان، تتخطّى الظاهرة عمليّة التشخيص الذاتي وصولًا إلى تشخيص المحيط وتعزيز عمليّة الحكم على الآخرين ووصمهم بعناوين اضطرابات شخصية وخاصة اضطراب الشخصية النرجسية. فيبدأ الشخص بتحليل الأفراد من حوله وإصدار الأحكام حول سلوكياتهم وربطها باضطرابات بناء على التعميم الحاصل للعوارض على وسائل التواصل الاجتماعي وتبعًا لتشخيصه الخاص، ونلاحظ ذلك خاصة بين الشركاء في العلاقات العاطفية والزوجية.
نتيجة لكل ذلك نصل إلى أنّ الحصول على المعلومات الخاصة بالصحة النفسية مفيد على صعيد المعرفة والوعي والحثّ على الانتباه لوجود خلل أو مشكلة على صعيد الصحة النفسية للفرد ودفعه للعمل على الحصول على المساعدة من المتخصصين في المجال وعدم الإهمال والتجاهل.
وذلك دون التشخيص الذاتي الذي عادة ما يحمل من هامش خطأ مرتفع، بالإضافة إلى الانتباه من الوقوع في فخ القلق المبالغ على الصحة النفسية والخوف الدائم من وجود اضطرابات نفسيّة حين حدوث أي تغييرات مشاعرية أو سلوكية مما قد يسبب مبالغة في التشخيص (over diagnosis).
غالبًا ما يخطئ الفرد حين يسعى لمعالجة الثغرات في شتى انواع الميادين بنفسه، بينما الامثلة في الدول الناجحة اقتصاديًا وصناعيًا وطبيًا ونفسيًا تقول أن “اعطاء الخبر للخبّاز” يختصر الوقت ويضمن النتيجة ويوفّر تضاعف المشاكل. من لا يلجأ لذوي الاختصاصات في الميكانيك والطب والقضاء يضاعف من ازماته ولا يحقّق مراده. بساطة السياق هذه تنطبق على علم النفس وما يشعر به الاشخاص من انزعاج. التشخيص الذاتي يؤدي تفاقم المشكلة، تجنّبوه.
الاخصّائية والمعالجة النفسيّة ريما كسر