يروي النائب الراحل ريمون إده عن الانتخابات الرئاسية عام 1943 والتي تقرر إجراؤها في الواحد والعشرين من شهر أيلول، ويومها كانت التوقعات قد أظهرت أكثرية نيابية لصالح الكتلة الوطنية ومرشحها إميل إده، والذي كان قد باشر باستقبال المهنئين وإقامة الاحتفالات في منزله، لحين إيفاد أحد الإعلاميين إليه وإبلاغه أن الجنرال سبيرس لن يعترف بشرعية انتخاب إميل إده في حال فوزه. وكان ذلك في إطار الخلاف البريطاني – الفرنسي على المشرق ولرغبة بريطانيا بشخصية تمثلها لها وليس فرنسا، ومعروف عن إميل ادة علاقته ومحبته الكبرى لفرنسا والموازية باعترافه لمحبته للبنان.
وهكذا لم يأت إده بل جاء بشارة الخوري، وتكرس العرف رئيس جمهورية ماروني ورئيس حكومة سني ورئيس مجلس نواب شيعي.
ومذاك، قليلة هي المرات التي ينتخب فيها رئيس جمهورية دون أن يسبق ذلك تأزم واشكاليات متعددة.
اليوم وبعدما انتقلت رئاسة الجمهورية من صلاحياتها لملك متوج يحكم البلد بثقل المارونية السياسية التي حكمت البلد برعاية غريبة دامت طويلاً وتخللتها حروب أهلية وأزمات وانقلابات وصولاً إلى الطائف الذي جعل العرف نصاً لكنه قلص الصلاحيات الرئاسية .
أنها أزمة رئاسة الجمهورية تضاف إلى أزمات عديدة يمكن اعتبارها وجودية لهذا الكيان، هذه الازمة، وصلت إلى شهرها السابع من الفراغ ولا زالت تتفاعل. وإذ تتعدد أسماء المرشحين من ميشال معوض إلى سليمان فرنجية وإلى قائد الجيش جوزيف عون والآن جهاد ازعور وأيضاً أسماء أخرى تلوح بترشيحها بعض الكتل النيابية.
من خلال هذا المشهد وما يرافقه من تطورات ومباحثات وتحالفات وتدخلات سياسية خارجية، لا بد من الإشارة إلى المخاطرالمرتقبة على البلد اذا ما استمر حال الفراغ في هذا المنصب في الموضوع الداخلي هناك الإنهيار المالي وتداعياته، بعد الدعاوى الخارجية والداخلية على حاكم مصرف لبنان، وانتهاء ولايته القادمة بعد نحو شهر من الآن، وشغور الرئاسة يهدد بشغور منصب حاكم المصرف ايضاً.
أيضاً، تهدد التحالفات القائمة والاصطفافات الجارية من الكتل النيابية، حالة الوفاق الوطني الذي يحرص الجميع عليها حرصاً على أمن البلد واستقراره وهدوء أحواله، والذي يسمح بتعزيز حال السياحة التي تجعل البلد يتنفس قليلاً في أجواء الحصار القائم على لبنان امتداداً لحصار قانون قيصر على سوريا، إقفال الحدود الجاري بين البلدين وعدم الانفتاح السياسي بين الكيانين المأزومين في الاطار الخارجي. يخضع هذا الاستحقاق لتجاذبات خارجية كبيرة بين المحاور التي تتحكم بالمنطقة وبرؤيتها لدور لبنان، بين فريق يرى ضرورة الحفاظ على المكسب العظيم الذي أنجزه لبنان وهو المقاومة أساساً للبنان القوي، وهذا الفريق يطالب برئيس لا يقدم على خيانة المقاومة بظهرها وأيضاً يحفظ البلد من الذهاب إلى الإرتهان الكلي لمطالب البنك الدولي الذي يفرض شروطه السياسية والمالية تباعاً.
وأيضاً بين محور يحاول أن يعود بلبنان إلى زمن أول، زمن يكون فيه لبنان محايداً ضعيفاً دون مقاومته ومنخرطاً على الأرجح في مجموع الدول العربية الداعمة للتسوية والتطبيع في المنطقة ويظهر ذلك جلياً في الجولات العربية والاوروبية والأميركية الجارية على لبنان، وفي مساعي عديدة تقام نحو جهات نافذة زمنية ودينية. أخطر ما تبدى مؤخراً التهديدات الأميركية الترهيبة التي أوردتها المصادر عن وضع رئيس مجلس النواب ومعه تسعة عشر شخصيه، ممن أسمتهم معطلين لانتخاب الرئيس، عرضة لعقوبات “قانون ماغنيتسكي “ويعرض المدانين به لإجراءات مالية واتهامات وتدابير.
في خلاصة الأمر، لا شك أن العنوان القائل أنه ليس هناك من عداء دائم في السياسة هو صحيح، لكن الثابت أيضاً أن هناك مبدئيات لا يمكن إغفالها وأبرزها، ما وصف به سعادة هذا الكيان اللبناني في مطلع الأربعينات. فقال محذرا من “خطر انهيار دولة الانفصال والعبودية في لبنان، التي أصبحت أدنى او قاب قوسين” أن الانهيار المالي قد وقع ومخاطره مهدمة على الواقع الاجتماعي والسياسي، والمتعلق بصورة هذا الكيان. وهذا ما حذر منه الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخراً البطريرك الراعي، في زيارته الأخيرة من مخاطر عن الوجود المسيحي في لبنان الآخذ في التناقص بسبب هجرة الشباب وإحباطه وضيق فرص التعلم والعمل.
أما في المجال السياسي، إذا كان هناك قلق من أن انسداد وتأزم الوضع السياسي قد يعيد رسم صورة هذا الكيان، يجب التأكيد أن ميزان القوى لا يسمح لحرب أهلية أن تغير واقع الأمور ولا لفرض واقع التقسيم أو الفدرلة أو الكنتنة بل أن المتاح حالياً حوار بناء هدفه وضع برنامج عمل مستقبلي، يجمع القوى السياسية برلماناً وأحزاباً وقوى حول التلاقي وإبعاد كل الأصوات النافرة الاتجاهات…
لا يمكن لهذا البلد تحت عناوين المحاصصة الطائفية أن يذهب إلى غير اتجاه لبنان الممانع الرافض للتطبيع. لا خيار بعد الآن للبنان الضعيف وقوة لبنان في ضعفه، زمن أول تحول وعلى القوى السياسية المعينة أن تتحمل مسؤولياتها. فإذا كانت بريطانيا سابقاً لن تعترف بشرعية انتخاب إده لأنه فرنسي الهوى، فأن الوطنيين في لبنان، الذي دفعوا دمهم ثمناً للاستقلال الحقيقي للبنان ولتحرير لبنان، باتوا هم من يقرروا شرعية الرئيس من عدمه.