مقاومة أبعد من الشريط الحدودي

مقاومة أبعد من الشريط الحدودي

تكتسي المقاومة في منطقتنا ملامح تاريخية خاصة، إضافة إلى دلالاتها الوطنية المعروفة ضد المحتل الصهيوني وقدرتها في الوقت نفسه على دحر هذا المحتل وإسقاط مشاريعه وامتداداته السياسية.

لقد أرست المقاومة اللبنانية في كل مراحلها، لتقاليد مجيدة ضد عدو استمرأ التنمر على المنطقة برمتها قبل أن يترنح تباعا، منذ تشرين 73، مرورا بهزيمة اتفاق أيار وصولا إلى إصاباته السياسية والعسكرية البليغة عامي 2000 و2006 وانعكاساتها الفلسطينية التي حركت المياه المقاومة في بحيرة أوسلو الراكدة.

وما كان ذلك ليحدث لولا مراكمة القوة التي كرستها المقاومة ومحورها ومعسكرها، من آلاف الشهداء من الجيش السوري إلى العمليات الاستشهادية للسوريين القوميين والقوى الوطنية والتيار الراديكالي في الحزب الشيوعي اللبناني، إلى حزب الله ودوره في معركتي التحرير وتموز ومعالة الردع الاستراتيجي مع العدو الصهيوني واستنهاض الداخل الفلسطيني في خط مقاوم متصاعد.

إضافة للدلالات الوطنية والسياسية المذكورة، فإن للمقاومة بعدين استراتيجيين، قومي ودولي:

البعد الأول، القومي ويتمثل في أن المقاومة اليوم صارت ضرورة تاريخية من ضرورات النهوض القومي مع غياب أو تغييب أو تهميش فكرة الإقليم القاعدة كشرط موضوعي لتوحيد الأمة ونهوضها، كما مع استنزاف العواصم الوطنية ومنعها من التقاط أنفاسها وإطلاق قانون تراكم يسمح لها بالتحول إلى كرة ثلج وكيفية تاريخية جديدة على مستوى الإقليم والأمة.

إن المقاومة بما تملكه من مرونة عملية في الاشتباك مع العدو الصهيوني وامتداداته واستنزافه وحشد القوى الوطنية والشعبية حولها، باتت اليوم فرصة حقيقية لقيام أوسع جبهة وطنية مشرقية من شأنها استعادة روح الأمة العابرة للهويات القاتلة والمناورات الصغيرة والتأسيس لإطار موضوعي يطلق برنامجا كاملا للتغيير الاجتماعي والسياسي في قلب الاشتباك مع العدو وما يمثله من قوى إمبريالية وتابعة.

وليس بلا معنى أن ثقافة قوى المقاومة اللبنانية التي سجلت بصمات راسخة ضد العدو وامتداداته، هي ثقافة القوى المسلحة بمنظورات سياسية استراتيجية تتعدى الشريط الحدودي والاشتباك الميداني المحض، مثل ثقافة السوريين القوميين الذين يدعون ويناضلون من أجل سوريا تاريخية واحدة في الهلال المقاوم أو ما يعرف بالهلال الخصيب السوري – العراقي، ومثل ثقافة حزب الله والشهادة الكربلائية على امتداد الهلال المقاوم المذكور.

البعد الثاني للمقاومة، هو ما تمثله كرافعة لمرحلة تاريخية تطال كل المستويات، السياسية والاجتماعية والثقافية، وتتجاوز الساحات الصغيرة إلى الإقليم برمته بل إلى ما هو أبعد من ذلك، سواء من حيث المعطيات المعروفة، أو المستجدات السياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

تأتي أهمية هذه الضرورة من تبدل المناخات السياسية السابقة في إدارة الصراع وقوانينه على غير الشعار الإشكالي القطري المعروف بالثورات الوطنية الديموقراطية وغير الانقلابات العسكرية الوطنية.

فما نحن إزاءه اليوم هو مشهد متغير تتزامن فيه تجليات العولمة وفسادها وإجرامها مع الثورة المعلوماتية الرابعة، ومع الأزمات المختلفة للاعبين الصاعدين والهابطين على حد سواء، كما تتزامن مع أزمة الكيان الصهيوني والإطارات الكيانية العربية والاضطراب الطائفي والجهوي لتعبيراتها وهوياتها السياسية ومع التحولات الكبرى لرقعة اللاعبين وتبدلاتها وارتفاع الوزن النسبي للجغرافيا السياسية وتشابكها على مستوى العالم.

بهذا المعنى، لم تعد معادلات القوى كما راكمتها المقاومة ومحورها معادلات محصورة في دوائر ضيقة هنا وهناك، بل أصبحت جزءا أساسيا وفاعلا في رسم المشهد الإقليمي وتجسيره مع ما يجري في أوكرانيا وغيرها من مناطق الاشتباك الدولية مع المتروبولات الرأسمالية والأطلسية في واشنطن والاتحاد الأوروبي.

كما لم تعد وقفات الصمود والانتصار مجرد استذكار لصفحات مجيدة ضد العدو الصهيوني وحسب، بل فرصة لإطلالات سياسية تاريخية تتجاوز شريطا من القرى نحو شراكة حقيقية وعملية من أجل خارطة جديدة ترى الأشياء والمسافات بعين طائر بعيدة النظر تجوب كل أرجاء الهلال الخصيب وتحوله إلى هلال مقاوم ببعد دولي.

وفي الحقيقة فإن هذه القراءة ليست جديدة، فقد كان استهداف المقاومة من محور الشر الإمبريالي الصهيوني وقوى النفط السياسي، استهدافا لمشروع ومحور استراتيجي مغاير عززته الأحداث والتحديات والاستهدافات، وليس بلا معنى أن هذا الاستهداف ارتبط دوما بالصراع على مفاتيح الجغرافيا السياسية وطريق النفط والغاز من مضيق هرمز إلى باب المندب والساحل السوري اللبناني.

وها هو محور الشرق بكل أطرافه الوطنية وهو يواجه إسرائيل اليهودية، يتواصل موضوعيا وعضويا مع المحور الروسي في مواجهة إسرائيل الأوكرانية وحلف الأطلسي ويؤسس لعناوين مشتركة جديدة: الشرق مقابل الغرب، وآسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية مقابل أوروبا وأمريكا الشمالية.