البوصلة الوطنية، المحددات والقواسم المشتركة

إذا كانت الاشتراكيات المبكرة وبضمنها الأممية الأولى وكتابات ماركس قد احتفت بمفهوم الطبقة مقابل مفهوم الشعب، فإن المحطة التالية، الرأسمالية في المرحلة الإمبريالية، استدعت أشكالا وأدوات مختلفة ظهرت ابتداء في الأدبيات الاشتراكية كما صاغها لينين بخصوص العمل مع شعوب الشرق، ومن ثم مفهوم غرامشي حول الكتلة التاريخية وكذلك فكرة الجبهة الوطنية كما صاغها البلغاري ديمتروف بتكليف من الأممية الثالثة.

لاحقا، وفي المشهد العربي ظهرت تصورات جبهوية في أعمال أنطون سعادة وكتاب عبد الناصر، فلسفة الثورة والميثاق، وإلى ما قبل عقدين على الأقل كان الاتفاق على القواسم الجبهوية المشتركة بين الوطنيين أيسر وأقل تعقيدا في ضوء وضوح أكثر بين التحديات الداخلية والخارجية، ولنا أن نحدد هذه القواسم الجبهوية على النحو التالي:

  1. الموقف من المنظومة الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فما من مكان لقوة أو شخصية قريبة من الأمريكان أو تدافع عن مصالحهم وقواعدهم في أي عمل وطني جبهوي.
  2. الموقف من الكيان الصهيوني، كعدو وتناقض أساسي مع الأمة كلها، فما من مكان لأي مطبع أو قوى تعترف بهذا العدو وتنسق معه أو تتقاطع مع مشاريعه المختلفة لتصفية القضية الفلسطينية، بوصفها قضية صراع مركزية للأمة وليست نزاعا فلسطينيا إسرائيليا.
  3. الموقف من الطغم البرجوازية التابعة الفاسدة، وخاصة الطغمة المالية بمرجعياتها العالمية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين وفلسفة السوق والاتفاقيات التي تنظمها من بريتون وودز إلى منظومة البترودولار والغاز المسال.
  4. الموقف من قوى العقل المستقيل ومساطر تمييز وفرز البشر على أساس طائفي ومذهبي (مسلمون ومسيحيون، شيعة وسنة.. الخ).
  5. الموقف من القوى الإقليمية انطلاقا من المحددات السابقة، فلا يقرر الموقف من تركيا وإيران وغيرهما اعتباطا، بل في ضوء موقف كل منهما من الامبريالية الأمريكية ومصالحها وقواعدها، ومن العدو الصهيوني والاعتراف به والتنسيق معه، وسياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، فما من مكان ولا مقاربة وطنية لقوة إقليمية تقيم علاقات وثيقة مع حلف الأطلسي والصهيونية وجماعات البنك الدولي، أو تقوم بتكفير الآخرين على أساس مذهبي.

ومن المفهوم أن هذه المحددات والقواسم الجبهوية مستمدة من قانون التناقضات، الركن الأساسي في مقاربة السياسة كعلم حديث لا كثرثرة أو انطباعات أو تأملات، وفي مقدمة هذه التناقضات:

  1. التناقض الأساسي بدلالة الموقف من الإمبريالية العالمية، الأمريكية والأوروبية وأدواتها مثل الناتو والمؤسسات الإعلامية والأكاديمية، بالإضافة للمؤسسات المالية الدولية المختلفة، وهو تناقض يشمل كل شعوب العالم.
  2. التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني.
  3. التناقضات الثانوية، وهي التناقضات التي لا ينبغي أن تتحول إلى تناقضات رئيسية والعمل الدائم على حصرها في إطارها الثانوي، وليس من الحكمة أن تقوم جماعة أو أمة بتصعيد هذه التناقضات إلى مستويات أعلى.

هذه هي المحددات الثابتة في فرز جبهة الوطنيين عن غيرهم، بيد أن السنوات الأخيرة استدعت ولا تزال، محددات جديدة في ضوء التأثيرات الجدلية بين المشهد المحلي لهذا البلد أو ذاك وبين المشهد الإقليمي الأوسع ناهيك بالمشهد العربي والعالمي، فصار جزءا من القواسم الجبهوية المشتركة لأي عمل سياسي، ومنها:

  1. الموقف من السيناريو الدموي لتمزيق الشرق العربي إلى كانتونات طائفية متناحرة، وليس بلا معنى أن تكون (سوراقيا)، سوريا الطبيعية والعراق، في مقدمة المناطق المستهدفة بدلالة المصالح الإمبريالية والصهيونية وقوى التبعية المرتبطة بهما، التي ترجمت ذلك بالعدوان على العراق وتمزيقه طائفيا ثم استهداف سوريا والمقاومة في لبنان.
    وهو ما يعني أنه لا مكان في الإطار الوطني وقواسمه الجبهوية المشتركة لأية قوة أو قراءة تكرّس المشهد الطائفي في العراق أو أي شكل من أشكال التواطؤ ضد سوريا والمقاومة، سواء كانت من الرجعية التكفيرية أو العثمانية الجديدة أو الليبرالية ومثقفي السفارات الأطلسية.
  2. الموقف من جماعات الثورات الملونة التي تدار جهارا نهارا من السفارات الأنجلوسكسونية والأوروبية باسم الليبرالية وحقوق الإنسان والتي تربط بين الحريات السياسية وحريات الأسواق، أي تفكيك الشرق ودوله وإعادة هيكلته وتركيبه في النظام الرأسمالي العالمي من موقع التبعية.
  3. الموقف من كل العناوين السياسية المشبوهة، من صفقة القرن إلى الابراهيمية السياسية.

بالمحصلة، تتمثل القواسم الجبهوية المشتركة في النقاط التالية:

  • موقف واضح من الامبريالية الأمريكية وتحالفاتها وأدواتها السياسية والعسكرية والمالية والثقافية والإعلامية.
  • موقف واضح من العدو الصهيوني.
  • موقف واضح من الرجعية التكفيرية
  • موقف واضح من العثمانية الجديدة
  • موقف واضح ضد ما تمثله فلسفة السوق، والأدوات المالية والاقتصادية لها.
  • موقف واضح ضد الخطاب الطائفي والمذهبي.

د. موفق محادين