الكفاءة والحوكمة الرشيدة

لا أعلم لماذا يتم تطنيش مناقشة مفهوم الكفاءة، بلداننا السورية، وربما في عموم العالم العربي، فالموضوع أكثر من خطير، ويمس كل فرد مهما كانت درجة مواطنيته على أرض الواقع، ووجودها الدائم على جدول النقاش العام، هو بالضبط موضوع الحوكمة، لأن موضوع الكفاءة هو المسؤولية المحاسب عليها، لأن الأفراد هم يدفعون تكاليفها، وفي حال فشل المسؤولين عن تحقيق الأهداف، لن يبكي أحد على الماء المسكوب، بل يواصل الأفراد دفع فواتير الفشل السابق، وتمويل الفشل اللاحق، بناء على تعليمات حكومية بغض النظر ( في حال اعترفت الحكومة بهذا الفشل، وربما حاسبت عليه بما أكثر من العزل أو الإبعاد ،أو النقل إلى مسؤولية أخرى)، ومتابعة التمويل، عسى ولعل ينجح قادم جديد بتحقيق الأهداف المرجوة، وبكل الأحوال لم يفلح أي مسؤول جديد أن يكون أحسن من القديم، طالما كان مفهوم الكفاءة مسكوت عنه، وخاضع لعملية واحدة من النقد، ألا وهي الامتداح حتى أوان عزله.

والكفاءة، التي يمكن تعريفها وتكرارها على مسامع الجمهور، هي المقدرة على تحويل العلم إلى معرفة، بواسطة المهارات، والسلوكيات، والقدرات، والنزاهة، ووضعها في خدمة المصالح العامة، إذ كيف يصادف وجود وزير للكهرباء (مثلاً)، لا يستطيع تأمين الكهرباء لبلده، مع أنه يعلم أن الكهرباء هي عصب العيش المعاصر، وكذلك علمه بالحاجة الحالية والمستقبلية لهذه السلعة، لتوفر الإحصائيات بين يديه؟ وأتكلم عن الكهرباء لأنها ( وغيرها) قطاع احتكاري لأي بلد، كاستثمار حكومي، ولكنها في الدولة هي استثمار المجتمع لإمكانياته، بما يعود على «الدولة»، وليس الحكومة فقط، بالنجاح، وهنا تبدو الكفاءة معدومة، ولا تتم مناقشتها علانية، كجزء من الإفلات من المسؤولية، مكملة إغلاق دائرة الفشل الوطني، وفي صدد إعادة توليد دائرة جديدة، من تفشيل الإمكانيات الاجتماعية، طبعاً دون وجود دراسات عن الأذى الحاصل للاجتماع البشري، وتكلفة هذا الأذى ومعالجته.

كان ذلك مثالاً ، يمكن تعميمه على كافة الوظائف التي تحتاج إلى كفاءات، والتي تفتقد إلى المعايير اللازمة، لاكتشاف الكفاءة ومراقبتها، من تحقيق الأهداف، إلى تحقيق الجودة والنزاهة والعدل، بالإضافة إلى عدم الهدر، والتحفيز على صنع كفاءات جديدة، والقدوة الحسنة، هذه المعايير لا يمكن تطبيقها في بلدننا لأنها تتطلب الشفافية والعلانية (دون التحجج بأسرار الدولة، فهي معروفة ومصانة عند الناس، الذين من حقهم العلم والمناقشة)، وهما أمران غير مجربان بين ظهرانينا، ولا أحد ينوي تجريبهما، ومنها إعلان هذه المعايير، والاستماع إلى شكايات عدم مطابقة إمكانيات المسؤول الذي تم تعيينه لها.

الأهم في موضوع الكفاءة هذا، هو التمييز بين نوعين من الولاء، الأول هو الولاء للدولة ، والثاني هو الولاء للسلطة، وقد جربت بلداننا النوع الثاني طويلاً، حتى تماهت الدولة مع السلطة، وانمحت الحدود الفاصلة بينهما، لتتحول السلطة بفشلها في معايرة الكفاءات، إلى دولة فاشلة، دون ملاحظتها انهيار كل شيىء من حولها، أثناء أداء مهمتها في إدارة التجمع السكاني الذي تقوم بحوكمته، عندها بالضبط تزول الدولة وتنمحي، في طيات السلطة، التي تقوم بتكنيس آثار الدولة وإخفاءها تحت السجادة، لتتفرغ لممارسة العنف ضد كل من تسول له نفسه النظر تحت السجادة. حيث يبدو إدغام الدولة في السلطة، كانحياز ضد الكفاءة، المؤدي إلى الموات الاجتماعي، الذي يتمثل في عقم الاجتماع البشري في استثمار إمكانياته، فتسقط القيم المعيشية في ظل الفاقة إلى الكفاءات القادرة من تحويل هذه الفوضى العارمة ( وإن كانت مضبوطة أمنياً وإعلامياً) إلى انتظام واندماج، وإنتاج.

هل يمكن معايرة الكفاءة بشكل دائم؟ طبعاً ممكن، حتى في حالات افتقاد الديموقراطية، وحرية المعلومات، فالنتائج واضحة لكل من هب ودب، ولكن القدرة على المحاسبة تحتاج إلى دلائل معيارية، يستعملها الكفوء بالحوكمة، الذي يقدر على التمييز بين الولاء والكفاءة، كضرورة استراتيجية، وليس كإجراء روتيني معيشي كمكرمة تلطف من أجواء الفشل الاستثماري، وإصلاح الخطأ تكتيكياً، ريثما تمر عاصفة الفشل الواضح والصريح ( الكهرباء مثالاً)، من جهة أخرى، تبدو المؤسسات قادرة على معايرة الكفاءات، في حال كانت في دولة حقيقية أولاً، ورشيدة ثانياً، فالمؤسسات تناط بها مهمات تنموية، تفقدها ضرورتها في حال فشلها، وهنا ( بين الولاء والكفاءة) يظهر الإفلات من العقاب، كدليل على عدم الكفاءة لكافة مستويات الإدارة، حيث ترمى الأخطاء والخطايا تحت السجادة، وربما يتم التريث بأمر المحاسبة حتى إشعار آخر، يتعلق صدوره بمسائل الولاء، حيث يتم رمي الاتهامات على عدم الكفاءة.

طبعا، يبدو الكلام نظرياً، فبلادنا بعيدة بثقافتها، عن أمم وأوطان، مارست استخدام الكفاءة المعايرة، وراقبتها، وحاسبتها، هذا بالإضافة لعدم حاجة الكفاءة للإثبات، فهي أمر واضح لكافة أعضاء التجمع السكاني، والكل يرى الملك عارياً، إلا محتكري العنف، الذين ينشدون على أنغام الطبول، أن الملك محتشم زيادة عن اللزوم، وعلى الشعب أن يقتنع بأن الرصاصة التي تخترق الرأس بمنطق فيزيائي بحت، هي معيار كفاءة، من لا كفاءة له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *