ربما يكون وقع مفردة «خضوع» سلبياً على عقل القارئ في بلادنا، خصوصاً أنها مرتبطة في ثقافتنا، بالإخضاع القسري المظلومياتي العنيف، مما يجر إلى ساحة التداول الثقافي، تجارب مثل الاستعمار، والاحتلال، والدكتاتوريات المتنوعة، وكذلك الأفكار المتشددة من كافة المشارب. ولكن مفردة خضوع لا تتوقف معنوياً أمام هذه الإرهاصات المترسبة في النفوس نتيجة التكرار الإعلامي/ الثقافوي لها، والنتيجة في الواقع العملي في هذه البلاد، هي الخضوع للخضوع، نتيجة افتقاد البديل الثقافي، النظري والعملي، حيث تتكاتف عوامل الغباء والتغافل والخيانة، في صياغة ثقافة تبرير ورفض ممارسة إي خضوع حتى لو كان للصواب، أو الخير، أو الحلول العقلانية مما يوقع أهل البلاد، في خضوع احتوائي، أكبر بكثير من ذاك الخضوع المذكور في أديباتنا الشعاراتية.
على الطريق الذي لما يزل متوازياً، بين الخضوع من المسار الأول، والتكنولوجيا على المسار الثاني، هناك من لا يقوى على قطاف العنب فيقول عنه «حصرم»، دون أن ينتبه أن التكنولوجيا (ومعها التكنولوجيات) هي عماد العيش البشري منذ إختراع الوعاء (القدر أو الطنجرة)، حتى مستقبلنا ذاك. ومن غير المتوقع خضوع تجمعاتنا السكنية لقوانين ومستلزمات واستحقاقات التكنولوجيا (على الرغم من استخدامها الأهبل للتكنولوجيات، أي منتجات التكنولوجيا)، إلا بطريقة اصطفائية، وكثيرة الاستثناءات وذلك بسبب عوامل ثقافية أصيلة، وليست أصلية، تجانب رؤية الحقيقة الفاعلة على الأرض. والحقيقة هي هزيمتنا المستمرة، التي تشبه من يتعرض لمليون صفعة على حين غرة، دون أن ينتبه للصفعة رقم واحد، أو الصفعة 99 ألف، بحيث يتساوى ( حسب المثل الشعبي) الغبي مع إبن الحرام، وهكذا يمر شريط حياة الأجيال، متنقلاً من صفعة إلى أخرى، من دون تنبه أو تحضر أو حتى توقع الصفعة التالية، لمجرد كون هذه الأفعال بحاجة إلى تكنولوجيا لتفعيلها.
في العموم ، تتمظهر التكنولوجيا في شكلين، الأول هو التكنولوجيا الفيزيائية، التي تنتج الأدوات المفيدة والضارة بالبشرية (بالعودة إلى مثال الوعاء واستمرار تأثيره حتى يومنا هذا)، والثاني تلك التكنولوجيا العملية التي تنظم حياة البشر بطريقة آمنة ومفيدة، وفي كلا النوعين تكون المساوة بين البشر في «المجتمع» الواحد إجبارية، وأي خلل ولو بسيط (كاصطفاء أو كاستثناء) يُفشل المعادلة النظرية التي سوف تقوم عليها التكنولوجيا العملية. وهذا كله في حال وجود المجتمع وليس مجرد سكانيات تصنع تنافرها المصلحي بسبب تنافرها التكنولوجي.
التكنولوجيا الفيزيائية هي من يتمخض عن تكنولوجيات تناسب العصر، البراد الغسالة الصواريخ السيارات الذكية، أدوات الرصد والتجسس، القذائف الدقيقة الذكية، وكل ما يمكنه هزيمة مخاصمي التكنولوجيا، أو متجاهليها، أو المتقصدون عدم التفاعل معها، لإنها مشروطة بوجود التكنولوجيا العملية من وجود مجتمع إلى، ديموقراطية، أحزاب، حرية رأي ومعتقد، كرامة إنسانية، برلمان حقيقي، تداول سلطة مؤسسات، فصل السلطات إلخ، قائمة طويلة يجب أن تترافق وترتقي مع وجود التكنولوجيا الفيزيائية في الحياة، هل ما أقواه يبدو مثالياً أكثر من اللازم؟ أو أنا مبهور بالتجربة الغربية الحقيرة، لأصل لمقارنة البوركيني بالبكيني الذي لا يناسبنا؟ هذه كلها ترهات تجتمع كلها عند الاطلاع على فواتير الهزائم، ومن ثم تسديدها إجبارياً بقوة التكنولوجيا بنوعيها، المرتبطين بالضرورة، وخارج ممارستهما، تتحول البلدان، إلى مذابح، وهزائم، وفشل اقتصادي وإنتاجي، وربما إلى همجية حضارية تستجمع تكنولوجيا وتكنولوجيات العالم لمقاومتها ..أو استخدامها.
لا يمكن اعتبار العيش في بلدان سوريا الطبيعية نموذجاً للعيش الناجح، ولا الطبيعي ولا حتى المنطقي، على الرغم من استقدام واستخدام التكنولوجيات المعاصرة ( في الكثير منها تستخدم عكس المرجو منها) ولكن الفشل واضح من بدايات هذا الاستخدام ( لننظر إلى استخدامات الكومبيوتر والاتصالات!!)، لسبب بسيط هو عدم ربط هذه التكنولوجيات برابط تفاعلي مع التكنولوجيا بنوعيها. فليس لصانع قنبلة نووية غير ديموقراطي حق الحصول عليها، لأنه لا يؤمَن جانبه الإنساني، وسيتحول إلى عدو للإنسانية مهما كان حقه وميزانيته، هذا على الصعيد الخارجي، أما الصعيد الداخلي فمن المؤكد أن التنمية في تراجع مستمر، والأزمات في تفاقم مستمر، نظراً لانقطاع التواصل التفاعلي بين مكوني التكنولوجيا، هذا الانقطاع الذي يودي بالثقافة الاجتماعية إلى ما دون المجتمع، باعتباره تكنولوجية تنظيم الإمكانيات وتوظيفها في مصالح العيش، هذا إذا لم نقل الحصول على ثقافة استبدادية استئصالية تروم لإلغاء الآخر أي آخر، فكيف للعالم أن يقبل بوجود قنبلة نووية بين يدي هكذا أنموذج، لا يعتمد التكنولوجيا العملية في ممارسة عيشه المعتمد على القيم المتمخضة عن الارتقاء البشري في العصر، حيث ينفصل ( كمثال) مفهوم قيمة الحياة الإنسانية عن التكنولوجيا بوصفها طريقة بقاء.
بالعودة إلى مفردة «الخضوع» حيث من الهبل تفسيرها كانكسار ومهانة، بل علينا مقاربتها مقاربة تفاعلية، تفترض بذل المجهودات ليس من أجل اللحاق بالآخرين، بل من أجل الحصول على حياة بشرية عامرة بالقيم النبيلة، وخلو التجمعات السكانية من هكذا قيم، يدل على فاقة تكنولوجية، تفاقم الخراب والمذلة والهوان. وليس هناك في عالمنا المعاصر المفعم بالتكنولوجيا العالمية، من أحد يقول أن «لكل شيخ طريقة»، فالمعرفة ملزمة، فقدت أنوجدت بطريقة لا رجعة فيها، والمهزوم هو من لا يستطيع التفاعل مع المعرفة، فقط هناك استحقاقات أو أثمان يجب دفعها في سبيل العلى أو الحضيض.

