لماذا استحضار المحرقة في الخطاب الإسرائيلي اليهودي؟

يأتي استحضار المحرقة في الخطاب الصهيوني وفي أي مناسبة وفي أي سياق لا يتعلق بها، ضمن إطار الحرب النفسية والاعلامية وحرب الوعي وتطويع الرأي العام التي يخوضها أصحاب الخطاب. انه في صلب عمليات التحكم في النفس وفي الوعي.

فتكرارها الدائم مدروس، ليحقق فوائد عديدة. ففي المجال الفكري يساعد في تحويل المعلومات وهي اضاليل إلى معتقدات راسخة ثم الى حقائق في ذهن المتلقي.

وبما ان الخطاب الإسرائيلي دائما مطبوع بفوقية إسرائيل، فيكون هذا التكرار عاملا يعزز الهيمنة والسيطرة على المتلقي فيبقيه من الناحية النفسية في حالة خضوع ودفاع وتحت تأثير الشعور بالذنب فكأنه بحاجة دائمة الى تذكير الاوروبي والعالمي بالجريمة التي ارتكبها فإعادة تنشيط انعاش الذاكرة ضرورة لعدم تكراره للجريمة مجددا.

ومن صورة إسرائيل الضحية والدفاع عن نفسها والأخطار التي تهددها، يتابع بث سرديّتها التي تسللت الى النسيج الثقافي والشعبي الكوني، أنّ اليهود كانوا عبر التاريخ في وضع الضحيّة، وقد بلغت هذه المظلومية أوجَهَا مع محارق النازيين، واستدرار مشاعر الاستعطاف معها، أيضا عدم قبول إبقائها في حالة «تحت التهديد» وبالتالي تأييد شرعيتها وحقها في الحياة والوجود ورفض الأخطار التي تعانيها، ليقوم صاحب الخطاب بشكل ذكي بإسقاط هذا الربط بالتهديد الإيراني او تهديد حماس او حزب الله، والذي تحوله بعامل التضخيم والتهويل الى خطروجودي يهددها بالزوال، فيجد المتلقي نفسه امام التهديد الايراني أو حزب الله أوى خطر حماس متضامنا متعاطفا معها دون ان يدري ومؤيدا لما تقوم به حفاظا على حياتها، ةفي الخطر الوجودي تتوقف الأسئلة ويتشرّع السلوك..
وفي وضعية الهجوم الذي تتخذه المخاطب، يصبح من الصعب على المتلقي مراجعة السردية نفسها أو طرح الأسئلة النقدية فقصة المحرقة فيها التلفيق ونقاش مطول حول الحادثة (صحتها وحجمها وعدد الضحايا ودور الصهاينة في ذلك وشهادة الشهود ومصداقية المحكمة وجرائم الحلفاء وغرف الغاز وقصة الافران والصور الجوية واحتمال اختراعها من قبل آلة الدعاية الصهيونية القوية). كل هذا يمتنع طرحه لان الذهن هو في مكان آخر، مسجون ومشغول بالتهديد والضغط والخطر العظيم على حياة الدولة، وبالتالي كيفية انقاذها. فينعدم الانتباه الى الربط غير المنطقي بينها وبين إبادة الفلسطينيين الذين لا يتحملون أي مسؤولية عن المحرقة التي وقعت في أوروبا.

بذكاء كبير يسير صاحب الخطاب بالمتلقي الى هدفه فيكمل محاصرته وسيطرته عليه بالكامل ويجعله في موضع الدفاع والاتهام والذنب وصولا الى الجريمة إذا لم يؤيد لان التشكيك بالمحرقة جريمة بحد ذاتها، بعد ان يقيم الاسقاط الذي يريده. فيستخدم تعابير «لم يظهر كفاية»، «لا مانع من تصحيح الذنب»، و«تصحيح الخطأ»، فيجد نفسه ليس رافضا المظلومية فقط، بل أيضا خاضعا مذنبا ومؤيدا كل ما تقوم به وهذا هو المطلوب. هنا ينجح في تحقيق القمع الأخلاقي، الذي لا يعطي الأمم الأخرى الحق في وعظ اليهود بالأخلاق، ذلك لأنهم (أي تلك الأمم) آثرت الوقوف بعيدا ولم تهرع لإنقاذهم من الهولوكوست. أما التكفير يكون بتأييد ما تقوم به لإزالة خطيئتها.
 فبعد بث واثارة جو المحرقة في مناخ نفسي مليء بالمشاعر ويتدرج نحو حق اسرائيل في الوجود وفي الحياة وفي شرعيتها وأمنها وسلوكها وسيادة دولتها، وبعد دمجها مع حالة تهديد «حقيقي» وخطر حقيقي كبير يهدد وجودها نفسه وحياتها، امام هذا المشهد يصبح حق اليهود أخلاقيا إيذاء كل من يشكل تهديدا لهم، واستخدام أي وسيلة عنيفة من أجل منع تعرضهم لضربة أخر إسرائيل المحقة. وهذا هو الغرض المطلوب. فيُبرر قتل الأطفال باعتباره «دفاعًا عن النفس» أو «أمرا إلهيا»، وتُبرر المجاعة الجماعية باعتبارها «تكتيكًا عسكريًا مشروعًا»، ويُمنع الماء عن المدنيين لأنهم «أعداء بطبيعتهم»، وتُقصف المستشفيات لأنها «مراكز إرهابية»، وتُدمر المدارس لأنها «تنشر التحريض». هنا يتم استباحة المنظومة الأخلاقية لصالح المنظومة البديلة.

ويأتي التضخيم والتهويل ليعزز هذا الجو النفسي، ففرادة الضحية وحجم الكره لليهود، هي جرائم غير عادية، التاريخ لم يعرف لها ومرجعاً معيارياً للجرائم ضد الإنسانية. وأنه ما ذبح هؤلاء إلا لكونهم يهودًا. وهنا تنجح في استخدام وسيلة ذكية وهوال«تعميم» فيصبح الذنب مشتركا، فيتم تحميله للغربيين كلهم فنصل الى تجريم «الآخر» كله فيقع الفرنسي والبلجيكي والاسباني مثلا في هذه الشباك، وحزب الله وحماس عرب ومسلمين، يصبحون جميعا في موقع الذنب والجريمة ويلزمهم التكفير. انها تستلزم الخطر الذي يهدد حياتها. المنظومة الفكرية للمتلقي.

اما الاهمية الكبرى للغة فللخطاب لغته ومفرداته الموظفة لتحقيق اغراضه فالنصوص مشبعة بكلمات مثل: فالجرائم «غير عادية»، صدمة بين الأجيال، التجريد من الإنسانية، كارثة والدمار. كبش، الخسارة، الإبادة الجماعية المعاناة، الصدمة لا يوصف، لا يمكن معرفته، عميق فادحة، بالغة القسوة.، مؤلمة، خسارة، ألم (جسدي، نفسي،)، الصمت، الصوت، الشهادة، الشاهد، الذاكرة (الحية/الثقافية)، التذكر، ما بعد الذاكرة، الأرشيف، روايات، الناجين. العنف المعسكرات (التركيز، الإبادة)، تاريخ المظلومية والذنب، الجناة، الإدانة -الذنب –التكفير، ضحية…. ليكملها االتعبير الأكثر ايحاء وتأثيرا فهو تعبير المحرقة نفسها انه أكثر الكلمات تحميلا وشحنا وتوظيفا. تُخلّد في الوعي الإنساني سلطة التسمية، عبر الأصل الديني للمصطلح، حيث كان يشير في الأصل في أصلها اللغوي الإغريقي «الهولوكوست» المحرقة هي القرابين المُحرقة التي تُقدم للإله. في «أضحية» و«حرق» كفيلة بتأدية الجو المطلوب. كل هذه المفردات تأتي ضمن الهدف نفسه هو التأثير النفسي على المتلقي. وقد يلجأ صاحب الخطاب إلى صياغة مصطلحات جديدة اذا تعذر. هذه اللغة العاطفية اللاعبة على شعور المتلقي، تقوم بدورها ليتلقى دون ان يشعر بقية مفردات اللغة الاقصائية الاستعلائية العدوانية المشبع بها الخطاب.

بالخلاصة، يدرك أصحاب الخطاب كيف يوظفون هذا الاستحضار ويكرروه ويربطوه ربطا لا عقليا بمواضيع أخرى ويبقون المتلقي تحت تأييد غير عقلي ويتخذون موضع الهجوم مقابل وضع المتلقي تحت الدفاع والشعور بالذنب واستدراجه الى تأييد كل ما تقوم به الدولة ودافع الضرائب الى المزيد منها، والمحايد الى كسر حياده فيكملون السيطرة عبر العامل اللغوي. انها استحضار لا يمكن فهمه الا في إطار المعركة الكاملة بأبعادها الأخلاقية واللغوية والسياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *